Page 124 - merit 53
P. 124
العـدد 53 122
مايو ٢٠٢3
في بيت بناه ،ولم يسلم جسده ولا قلبه بعد طلاقه أبي ،إن في داخلي تلك الغابات التي لن تلمسها يو ًما،
لغير طليقته .وتعود العزلة والموت البطيء .مات الغابات التي جرى فيها جلجامش وأنكيدو ،والتي
فيه جلجامش وحي ًدا دون صديق ودون حبيب قتل فيها الوحش من قديم الزمان .هناك ليل مثل
ليلك في دمي ،يا والدي ،وهناك ضوء خافت أخاف
ودون بيت .يطرق برأسه .فتمد له ابنته كوب شاي، أن يطفئه صمتك الأبدي .أتفهمني ،يا أبي؟
وقطعتي كيك بالشوكولا ،وتضع أمام ريكا صحنًا -أفهمك ،أفهم الآن كل شيء!
من لحم الدجاج المفتت ،ويفيض عليهما الليل الذي -تقول البنت لجلجامش تزوجني ،كما قالت لك
يستوطن أعماقهما ،فيصمتان لبعض الوقت. أمي قبل عشرين عا ًما ،لكن جلجامش يرفض،
-قرأت ملفك الطبي. ويعمد إلى غيمتها البيضاء فيحشرها في رماد
-ملفي الطبي؟ مواقده ،وإلى ياسمينها فيطعمه للحيوان ،وإلى
-لا تستغرب ،طبيبك استدعاني ،وأخبرني .قال عطرها فيريقه على التراب .وأنت ،يا أبي ،قلت لها
لي« :والدك سيموت» .قلت له« :والدي لا يموت! نعم ،وأدرت رقبة الوحش النائم في أعماقك إلى
جلجامشي لا يموت أب ًدا .والدي ثلثاه إله ،وثلثه حضيرتها .قلت نعم لكل شيء ،أما هو ،فقال لا في
بشر .والدي لن يموت» .فابتسم الطبيب الشيخ، وجه من قالوا نعم .أتدري ،يا أبي ،امتلك في رفضه
وجلس على كرسيه ،وفتح لي الملف ،وقال« :ليس الغابات والسهول ،وشق أرض العالم القديم ،ومع
المرض هو الخطير ،الخطير هو الاستسلام له .ولا أنكيدو ملآ الضوء والظلام بما يليق ولا يليق.
أخفيك ،لو استمر الحال هكذا سيموت!» .أيقنت وانقلبت عشتار إلهة من جديد ،وأرسلت عليه ثور
ساعتها أنك لست جلجامش ،بل أنكيدو الذي السماء المخيف ،يد آنو إله السماوات الطويلة،
ألقته الأيام في مطحنة الزمان .وهنا أي ًضا فقطعها ،وقذفها في وجه الآلهة جمي ًعا لح ًما ود ًما.
عادتني أحلامي .اسمعني يا أبي ،اسمعني -كنت أريد أن ..أن..
فقط! -كنت خائ ًفا وضعي ًفا يا أبي! تلك هي الحقيقة.
-الله يحميك يا ابنتي .كيف تحتملين هذا كله؟ رفضت هويتك الحقيقية ،ورغبت في هوية جديدة.
كيف؟ وأضعتهما معا للأسف!
-رأيت الدود يأكل جسمك يا أبي ،في الحلم، -صدقت ،صدقت! إنني ..إنني..
رأيت جسدك يتعفن .لا تستغرب .لقد جعلتني -شبيهك جلجامش ،وصديقه أنكيدو ،أثارا غضب
آلة أحلام متعفنة! أمي بعيدة ج ًّدا بيني وبينها الآلهة ،فأرسلت عليهما المرض ،فلم يفهما لم سلم
المحيط .وأصحابي بعيدون ج ًّدا .وجدتي ،يا أبي. جلجامش ،ولا لم أصيب أنكيدو؟ قالت نيسون
وغرفتي ،وقطي ريكا .كانت لنا شجرة تين، في نفسها« :ثلثاه إله ،وثلثه بشر .لن يصيبوه
وأحواض غرس ،وجابية مياه قديمة .وباب حديد بسوء مهما فعلوا» .وخاطبت زوجها« :لقد نجا
بخوخة ومقبض في شكل خمسة .نزعتني مثل نبتة جلجامش!» .فقاطعها لوغال باندا« :إنه أصله
يائسة ،وتركتني معلقة .وفجأة مت وحي ًدا بلا أهل، السماوي ،اللعنة! اللعنة .إنه ليس ولدي ،ليس
يا أبي .وقادني حلمي إليك .قمت في ليلتي تلك، ولدي» .فابتسمت نيسون ،وقالت في نفسها« :ومن
بعد كلام الطبيب ،وتحسست جسدك وأنت ميت، يهتم؟ من يهتم؟».
ووجدتك .لأول مرة يا أبي أتفطن لوجودك .لك لحم -فعلا من يهتم!
مثل لحم الآباء ،وعينان مثل عيون الآباء ،وتتنفس، ويصمت الأب ،يسقط في بئر ماضيه ،يتمنى لو
ولك جسد قابل للموت .فجأة شعرت بأنني لست ينفتح فمه ،ويتمكن أخي ًرا من استعادة ما فاته.
معلقة تما ًما في الهواء إلا بك! ولست موجودة في يتمنى تقييم حياته التي مضت كلها على حافة
الحياة إلا فيك ،وليس عندي رغم كل ما مر بي الحياة ،وليس في خضمها .لقد شاهد النهر مرا ًرا،
من ثابت غيرك .بقيت معي حين غادرني العالم. ولم يتبلل بمياهه .ورأى كل شيء ولم يدرك كنهه،
حميتني بخوف أدى إلى حرماني ،لكنك حميتني. بل تحاشاه .لم يجلس في ظل شجرة غرسها ،ولا
وحملتني مثل صليب ،وغامرت بي في أراض بعيدة.