Page 113 - merit
P. 113

‫‪111‬‬  ‫الإبداع الكردي‬

     ‫قصــة‬

   ‫على ما آلت إليه حال الكرد عصرئ ٍذ‪ ،‬قال أحدهم‬             ‫والأشجار المشبوبة بالنيران الشرهة‪ ،‬فيما في‬
‫بنبرة تح ُّسر‪ :‬والله كما يقال ليس لنا سوى الجبال‪،‬‬        ‫الأسفل على مستوى البيوت فقد تحولت معظمها‬
‫وصمت لحظة كأنه ينسج شيئًا ما في خياله ثم قال‬          ‫لانقا ٍض متهافتة أو نهبًا للسلب والنشل‪ .‬لم تستطع‬
‫بلغة الشاعر المكلوم‪ ،‬أتعرفون يا شباب‪ ،‬أترون هذه‬
‫الينابيع التي تتدفق من جبالنا‪ ،‬مياهها ليست ميا ًها‬         ‫البيوت المبنية بأحجار قاسية رتبتها ورصفتها‬
                                                             ‫أيادي ذ َّواقة حاذقة أن تقارع قسوة القنابل‬
 ‫جوفيَّة كما تعتقدون إنما هي تجمع لدموع أمهات‬
‫الكرد‪ ،‬إذ كلما نزل على رأسهم وبا ٌل وفاجعة انفجر‬        ‫والأسلحة الثقيلة‪ ،‬آليات وهمرات عسكرية تسرح‬
                                                       ‫في شوارع القرية‪ ،‬مرتزقة يعبثون فيها لا يتوانون‬
          ‫ينبوع جديد في الجبل أثناء لجوئهم إليه‪.‬‬
‫بعد انحباس الأنفس من ثقل كلامه ر َّد الآخر بتر ٍو‪:‬‬           ‫عن إطلاق العنان لأنفسهم في النهب وتدمير‬
                                                         ‫البيوت وقلع الأشجار والنبات وسلب الحيوانات‬
          ‫علينا أن ُنطمر ونوقف تدفق الينابيع إ ًذا‪.‬‬    ‫الأليفة حيواتها‪ .‬الطرف الجنوبي والشرقي للقرية‬
    ‫ضحك الأول من كلامه وقال بمر ٍح منكسر‪ :‬يا‬              ‫كانا لا يزالان على حالهما منتظران أدوارهما في‬
‫بني إن أوقفنا سيل الينابيع سنموت‪ ،‬فنحن نتغذى‬             ‫حفلة الخراب المنتظمة‪ ،‬بينما في جوانبها الأخرى‬
 ‫على الآلام والمصائب‪ ..‬لم يفهم أبو آزاد مقاصدهم‬        ‫شرع الدمار يستحوذ على كل حياة فيها‪ ،‬الأشجار‬
    ‫حينها‪ ،‬لم يكن قد خبر الآلام ولا عانى الفواجع‬
   ‫التي رسموها في خياله الطفولي‪ ،‬لكنه الآن أدرك‬                          ‫والبيوت‪ ،‬والبساتين الصغيرة‪.‬‬
     ‫بعمق ما كانوا يعنونه و َخبِر كل الفواجع التي‬         ‫قطع صوت لعلعة رشاش الدوشكة خيط أفكار‬
                                                        ‫أبي آزاد‪ ،‬رشاش متبادل‪ ،‬خمن بخيال المألوف أ َّن‬
                                   ‫تحدثوا عنها‪.‬‬          ‫مقاتلين كر ًدا غيورين حمقى تر َّبصوا للغزاة‪ ،‬لم‬
  ‫اخترق صوت الرعد أذنيه فصله عن دنيا الخيال‪،‬‬          ‫يعر اهتما ًما‪ ،‬لم ُيثر حما ًسا‪ ،‬وأعاد عربة تخيلاته إلى‬
                                                      ‫سكتها تسير محملة بصخب الأفكار المتشائمة نحو‬
   ‫اختبأ وزغ كان يتنفس تحت الأعشاب بين ش ٍق‬
      ‫يفصل حجرين‪ ،‬فزعت فختتان رابضتان على‬                                                  ‫نفق العدم‪.‬‬
                                                        ‫بعد وهلة أشعل لفافة ثانية‪ ،‬مد رقبته قلي ًل وألقى‬
  ‫الصخرة القريبة منه وف َّرتا بعي ًدا‪ ،‬لم تمض ثوا ٍن‬
‫حتى سقطت حبات المطر على وجهه‪ ،‬كانت حبيبات‬                ‫نظرة فضول على منزله الذي تراءى له بضبابية‬
‫ثقيلة وسوداء لزجة‪ ،‬نزلت عدة قطرات على شفتيه‪،‬‬                ‫منكبًّا على نفسه لا يلمح منه إلا القبة الطينية‬
 ‫أحس بطعم م ٍّر كان قد ألفه وتذوقه كثي ًرا‪ ،‬تنضح‬
  ‫منها رائحة الحريق‪ ،‬ورائحة نبات محترق‪ ،‬عصر‬           ‫للمطبخ القديم‪ ،‬ثم أعاد رأسه للخلف وأغمض عينيه‬
‫ذهنه وحاول أن يستفهم مذاقها‪ ،‬أن يستحضر من‬               ‫وكأنه يتح َّضر للدخول في تخيلات جديدة‪ ،‬انسال‬
‫أرشيف ذاكرته الذوقية نكهتها‪ ،‬نعم هو نفسه طعم‬           ‫سيل من الذكريات وجرف خياله إلى أزمنة غابرة‪،‬‬
                                                           ‫تذكر ابن قريته وصديقه بوزو وهما يصعدان‬
   ‫الزيتون الذي تذوقه طوال حياته‪ ،‬طعم الزيتون‬           ‫بين فترة وأخرى هذا الجبل في صباهما‪ ،‬يدخلان‬
      ‫المحترق الذي صعد إلى السماء التي عصرته‬           ‫بفضول المغامرين المغارة التي يجلس بجانبها الآن‬
                                                                                          ‫دون خو ٍف‪.‬‬
   ‫وأعادته إلى الأرض مرة أخرى‪ ،‬قال أبو آزاد في‬                ‫حشد من الذكريات ترادف تبا ًعا في مخياله‬
‫سره مفتخ ًرا‪ :‬لا يمكن لزيتوننا أن يخون أرضه‪ ،‬لا‬          ‫الخصب‪ ،‬كل ذكرى تصطحب رفيقة معها‪ ،‬تذكر‬
 ‫يستطيع زيتوننا أن يقيم في مسك ٍن آخر‪ ،‬أن يهجر‬          ‫ما لم يتذكره من قبل‪ .‬في أحد أيام طفولته البعيدة‬
‫تربته‪ ،‬حتى لو تحول لقطرات ماء في السماء فلا بد‬          ‫حضر مع كبار القرية جلستهم ذات أصيل‪ ،‬تحت‬
 ‫أن يعود لأرضه‪ ،‬منبته‪ ،‬ومنشأ ولادته‪ ،‬ونزل نهر‬           ‫سماء برونزية‪ ،‬وشمس تشد أردانها جهة الغرب‪،‬‬
                                                          ‫مجتمعين على المصطبة القشيِّة لبيت جده‪ ،‬تفوح‬
   ‫من الدمع من عينيه‪ ،‬سار بسرعة على حافة أنفه‬           ‫منها رائحة رطوبة دافئة‪ ،‬وكانوا يتحدثون كعادة‬
‫وبللت شاربه الرمادي المعقوف قلي ًل قبل أن تنحدر‬          ‫القرويين بحدة وانفعال عن ثورة البارزاني وعن‬

 ‫وتجتاز لحيته البيضاء القصيرة‪ ،‬ذقنه الذي لم ي َر‬      ‫سقوط جمهورية مهاباد وهم يتمايزون غي ًظا وأس ًفا‬
   ‫النور يو ًما حتى بعد وفاة زوجته فاطمة (فاطو)‬
‫التي كانت تحثه على تحليقه كلما نبت‪ .‬كان أبو آزاد‬
   108   109   110   111   112   113   114   115   116   117   118