Page 114 - merit
P. 114

‫العـدد ‪44‬‬  ‫‪112‬‬

                                                       ‫أغسطس ‪٢٠٢2‬‬

‫شدقيه بغرغرة في ضحكه‪ :‬إن قدموا لي بناتهم فأنا‬            ‫يدأب على الظهور أني ًقا أمام الآخرين وأمام نفسه‬
 ‫على استعداد أن أعيد هيبة الدولة العثمانية وأحقق‬         ‫كي يحافظ على شعوره وشعور الآخرين فيه بأنه‬
‫لهم الفتوحات بأولادي فقط‪ ..‬أطلق الجميع ضحكة‬             ‫ما زال شا ًّبا طاف ًحا بالنشاط‪ ،‬لكنه اﻵن يشعر بأنه‬
                                                          ‫كه ٌل بلغ الثلاثمائة واجتمعت جميع عقد وعاهات‬
            ‫واحدة كشرت عن أسنانهم المصفرة‪.‬‬                ‫المسنين في جسده وروحه‪ ،‬فلو نطقت كل شعرة‬
   ‫ابتسم أبو آزاد ابتسامة لطيفة أظهرت جز ًءا من‬
  ‫أسنانه التي علاها الصفار أي ًضا وهو يستحضر‬              ‫بيضاء في وجهه لاسترسلت كل واحدة في سرد‬
   ‫تلك الذكرى‪ .‬الأسنان الصفراء وصمة المدخنين‬            ‫قصص سوداء عن حياة صافية تحولت إلى غسق‪،‬‬
   ‫وسمتهم‪ ،‬المدخنون الريفيون يحتفون بأسنانهم‬
    ‫الذهبية‪ ،‬من النادر رؤية كرد ٍّي ريف ٍّي لا يدخن‬                                        ‫عدم‪ ،‬جحي ٍم‪.‬‬
   ‫التبغ‪ ،‬كل كرد ٍّي ريف ٍّي محكو ٌم بالتدخين المؤبد‪.‬‬      ‫لم يسبق له أن بكي بغزارة كما الآن‪ ،‬كان دائ ًما‬
   ‫بثت تلك الذكريات الطريفة السرور في قلبه بلا‬
    ‫شعو ٍر‪ ،‬وحينما فاء على نفسه وهو يبتسم أ َّنب‬             ‫قوي المحتد‪ ،‬متكاب ًرا على أحزانه‪ ،‬صار ًما أمام‬
    ‫ضميره‪ .‬لم يرد أن يعكر حزنه بفر ٍح قديم‪ ،‬أن‬          ‫مصائبه‪ ،‬لا أثناء موت والديه ووفاة زوجته فاطمة‬

                                                             ‫ولا حتى عندما سقط حفيده شيار قبل ثلاث‬
                                                         ‫سنوات شهي ًدا في ضواحي حمص وهو يعود من‬

                                                                                       ‫عطلته الجامعية‪.‬‬
                                                        ‫عاودته نوبة البكاء‪ ،‬تدفقت كرات الدمع من مقلتيه‬
                                                         ‫متراصفة‪ ،‬شعر أن سكاكين جديدة تطعن جراحه‬
                                                         ‫القديمة‪ ،‬كل مشهد تذكره كان بمثابة طعنة‪ ،‬تركه‬

                                                          ‫أولاده وغادروا القرية واتجهوا مع نسائهم نحو‬
                                                         ‫ممر آمن وبقي هو معان ًدا‪ ،‬هجره رفاقه وأصدقاء‬

                                                           ‫طفولته وبقي يصاحب الحزن والخوف والموت‬
                                                       ‫وحي ًدا‪ ،‬أما الطعنة التي حفرت في قلبه أخاديد عميقة‬

                                                         ‫رؤيته لقريته التي كبر فيها وترعرع على سهولها‬
                                                         ‫وهضابها وهي تباد وتنهب وتمتد أيا ٍد غريبة على‬
                                                          ‫أرضه التي بقي سنين طويلة وهو يعيث الجرار‬

                                                            ‫فيها ويأكل من ثمارها‪ ،‬كان يحس بأن جرا ًرا‬
                                                           ‫ما يثلم قلبه كلما تخيلهم يسرحون في بساتينه‬

                                                                                     ‫وحقوله وأشجاره‪.‬‬
                                                          ‫مسح عينيه الدامعتين بركبتيه‪ ،‬أخرج كيس تبغه‬
                                                         ‫ولف سيجاره أخرى بيد مرتبكة‪ ،‬وأن ٍف يزفر كل‬

                                                                         ‫حين جراء انسياب الدموع فيه‪.‬‬
                                                           ‫أثناء استغراقه في تحضير لفافته راودته ذكرى‬
                                                           ‫طريفة‪ ،‬تذكر كلام بوزو ومزحاته وآخرها قبل‬
                                                          ‫شهرين عندما كانا يجتمعان مع بقية أصحابهما‬
                                                       ‫أمام دكان القرية‪ ،‬قال بوزو وهو يبلل بلسانه ورق‬
                                                          ‫لفافته‪ :‬تركيا مدينة لأبي آزاد على اقتنائه لتبغهم‬
                                                       ‫طيلة أربعين عا ًما وأكثر‪ ،‬الاقتصاد التركي يعتمد في‬
                                                         ‫دخله العام على التبغ الذي يشتريه أبو آزاد منهم‬
                                                        ‫وعليهم أن يقدموا له أربعين فتاة كعربون صداقة‬
                                                          ‫تجارية بينهم‪ ..‬أعقب أبو آزاد وهو يضحك ملء‬
   109   110   111   112   113   114   115   116   117   118   119