Page 115 - merit
P. 115

‫‪113‬‬  ‫الإبداع الكردي‬

     ‫قصــة‬

  ‫عروق عنقه تتلوى وتنتفخ بقسوة وتهتاج‪ ،‬أحم َّر‬           ‫يبتسم ومصير أهله مجهول‪ .‬سار إحساس بالعجز‬
  ‫جلد وجهه وعنقه‪ ،‬بدا وكأنه يحاول أن يطلق كل‬                   ‫في أوصاله‪ ،‬شعر أنه تلك النبته التي نمت في‬
 ‫ما في جوفه من حزن وذكرى وأل ٍم وهواجس دفعة‬
  ‫واحدة‪ ،‬رفع يديه للسماء يناجي المجهول‪ ،‬يخشع‬                 ‫الصحراء بالخطأ وستموت لا عط ًشا إنما حز ًنا‬
‫للمخلِّص المتواري‪ ،‬لم يعرف ماذا يقول‪ ،‬ماذا يطلب‪،‬‬                                               ‫ووحش ًة‪.‬‬

    ‫الكلمات اختلطت بالدموع وغصت في الحنجرة‪،‬‬               ‫بدأت الذكريات والمشاهد العشوائية تندفع وتترى‬
 ‫أغلق عينيه واستجمع ما في عقله من نتف الكلمات‬             ‫في دماغه‪ ،‬تمور وتصخب وتعوي‪ ،‬شعر أن هناك‬

   ‫الصغيرة التي قد تسعفه أمام هذا الهول الكبير‪،‬‬               ‫من قام بجمع قمامة العالم في شريحة مركزة‬
  ‫رفع عقيرته وشرع يواجه بريفيته وبساطته ربه؛‬             ‫وجعلها تدور في رأسه‪ ،‬لم يستطع أن يحتمل أكثر‪،‬‬

     ‫«يا الله أنت عليم بما أنا فيه فإني أي ًضا غدوت‬          ‫دار حول نفسه دورتين‪ ،‬مسك رأسه الآيل إلى‬
   ‫مثلك يا الله وحدي لا شريك لي»‪ .‬ثم أغلق عينيه‬             ‫التص ُّدع‪ ،‬لم يجد ب ًّدا غير أن يدير وجهه إلى الله‬
    ‫وبقي يكرر دعاءه في دخيلته‪ ،‬بعد لحظات مرت‬                ‫علَّه يزيل كمده وهمومه‪ ،‬تح َّس َس جوانبه وقلبه‬
  ‫من مناجاته‪ ،‬أحس بشيء غريب قد حدث‪ ،‬صم ٌت‬                   ‫وجمجمته‪ ،‬كانت الوحدة تنهش عقله‪ ،‬وحشة لا‬
  ‫بار ٌد مخي ٌف خيَّم على المكان‪ ،‬ثم ه َّب صو ٌت عمي ٌق‬      ‫تطاق‪ ،‬رفع جبهته إلى الأعلى وفغر فاهه‪ ،‬بدأت‬

      ‫لم يعرف من أي اتجاه ينحدر إليه‪ ،‬نقل نظره‬
      ‫إلى أرجاء المغارة التي تجاوره‪ ،‬لكن لا جسد‪،‬‬
     ‫لا حركة‪ ،‬لا صوت ينبعث منها‪ ،‬استحوذ عليه‬
   ‫الخوف وارتجف صدره هل ًعا‪ ،‬ظ َّن في البداية إنه‬
  ‫يتوهم لكن عاد الصوت العميق مرة أخرى هائ ًل‪،‬‬
   ‫استغفر ربه عدة مرات وتلا عدة تسبيحات‪ ،‬أخذ‬
 ‫الارتعاد يتصاعد ويتدفق بكثافة وشمل ج َّل بدنه‪،‬‬
  ‫أغمض عينيه لئلا يرى شيئًا يباغته‪ ،‬عاد الصوت‬
    ‫مرة أخرى إلى الحضور‪ ،‬تنفس هذه المرة بعم ٍق‬
 ‫وحاول أن يكبت مخاوفه‪ ،‬أصاخ السمع وه َّدأ قلبه‬
‫علَّه يقبض بذلك على مصدر الصوت ومنبعه‪ ،‬بره ًة‬
‫بره ًة أدرك أنه ندا ٌء ينبعث من عالم بعيد قريب منه‪،‬‬
   ‫كان النداء يتردد من أعماقه ومن قلبه بالتحديد‪،‬‬
  ‫في لحظة صفاء شعر أنه نبي يوحى إليه‪ ،‬يتهاطل‬
   ‫وينتثر كبتلات الورود في مهب الريح‪ ،‬بينما قلبه‬
‫يبقى في مكانه يخفق بصوت فخيم‪ ،‬مديد‪ ،‬متضخم‪.‬‬
    ‫كان النداء يهدر ويتصادى ويتمدد من الجهات‬
‫قاطب ًة‪« :‬لا تحزن يا عبدي ولا تيأس‪ ،‬فقد اتخذت لي‬
 ‫في قلوبهم مسكنًا‪ ،‬لكنهم طردوني‪ ،‬وأنت أنت الآن‬
   ‫لك جبالك تحتضنك وتأويك وتستقبلك وتحميك‪،‬‬
  ‫فمن يحويني ويبقيني عنده يا عبدي‪ ،‬فقل لي أيها‬
‫المظلوم مثلي من منا وحيد لا شريك له‪ ،‬كنت وحي ًدا‬
‫وسأبقى وحدي لا شريك لي‪ ،‬وحدي مثلك يا عبدي‬

                                       ‫وحدي»‪.‬‬
   110   111   112   113   114   115   116   117   118   119   120