Page 22 - merit
P. 22

‫العـدد ‪44‬‬  ‫‪20‬‬

                                                    ‫أغسطس ‪٢٠٢2‬‬

                 ‫لتزييف التاريخ وطمس الحقائق‪.‬‬            ‫ممكنًا‪ .‬فـ(طاكين) الذي يسعى لتح ِّدي الزمن‬
                                                    ‫والأقدار رغم ما تحمله قصته من مأساويات ابتدا ًء‬
             ‫المكان الأنثى‬                          ‫من ِق َص ِره المبالغ فيه وموت أمه أمام عينيه وعيشه‬
                                                     ‫مع جدته المخبولة وحكاياتها العجيبة‪ ،‬خلق لنفسه‬
   ‫لم يق ِّدم الكاتب نموذج المكان الجبري –السجن‪-‬‬
   ‫فقط دون طرح المعادل المضاد‪ ،‬لعل أشد الأماكن‬          ‫حياة أخرى يسعى فيها للتحرر من مأساوياته‬
   ‫انفتا ًحا والتي تقف في مواجهة صريحة معه هي‬        ‫القديمة ويبحث عن التاريخ من أجل محوه‪ ،‬ويبني‬
    ‫(شجرة غابة المنى)‪ .‬لا تتمثل أهمية الشجرة في‬
    ‫كونها مكان «حورة» الأسطورية ولكن في كون‬              ‫لنفسه غواصة ضخمة (الراصدة) التي توحي‬
    ‫الشجرة رم ًزا للأم ودلالات الجذور والأصالة‪،‬‬        ‫دلالتها اللغوية ‪-‬الجذر اللغوي «رصد»‪ -‬بالقمع‬
 ‫تتماهى الشجرة كعنصر مكاني مع الأنثى وتصير‬             ‫والتسلط ولا يتو َّرع عن تحويلها لسجن حقيقي‬
‫هي مبتدأ الحكايات ومنتهاها بل ومعادل موضوعي‬
    ‫للحكايات وتاريخ تلك البلاد؛ مما دفع (طاكين)‬            ‫لتضرب نو ًعا من القهر الخانق على أهل البر‬
    ‫للتفكير في اجتثاث الشجرة «ينزل تلك الشجرة‬        ‫والبحر‪ .‬فيرسم هيكلها المعدني معاني التوحش بل‬
‫التي يرقد فوقها عش حورة لتكن هي البداية فيجن‬
‫جنون من يعلمون بالقصة»‪ .‬ليست الشجرة محض‬                ‫تج ِّسد عقد النقص المر َّكبة لدى (طاكين) فترسم‬
  ‫مح ٍط للحكايات بل هي الحصن الأصيل لمن يبحث‬           ‫التوحش الذي يسعى إلى طمس الذاكرة وسرقة‬
                                                         ‫الحكايات ومحو ما هو إنساني ليحل القمع في‬
     ‫عن جذوره‪ ،‬إن البحث عن الحصن والذود عنه‬
  ‫إنما هو ذود عن الذات حيث إجابات أسئلة الهوية‬                                 ‫صورة مادية شرسة‪.‬‬
                                                    ‫تغدو (الراصدة) نفسها سجنًا معنو ًّيا قبل أن يكون‬
    ‫للشخوص التي تعاني التشتت والتيه‪ ،‬مثل حال‬        ‫حسيًّا لـ(طاكين) فلا يستطيع العيش خارجه وكأن‬
     ‫(حور) التي لجأت لشجرة جدتها عندما اشتد‬
     ‫الخلاف بين عمها الحاكم أمجد وبقية عائلتها‪.‬‬       ‫لسان حال الكاتب يقول‪ :‬كلما امتلكت وركنت إلى‬
     ‫لا يقتصر ذلك المكان على سماته الأنثوية وإنما‬    ‫مكان سلطتك أصبحت أسي ًرا لما تمتلك! وفي سبيل‬

  ‫يحمل طبيعة أسطورية ذات إحالات إنجيلية تحيل‬            ‫ذلك يو ِّظف الكاتب المكونات النفسية لشخصية‬
      ‫إلى شجرة المعرفة‪ ،‬فتقع الشجرة داخل مثلث‬       ‫«طاكين» المضطربة؛ يرتكب (طاكين) أبشع الجرائم‬
                                                    ‫ومن ثم تتتابع عليه الكوابيس «يشيح بوجهه ليجد‬
  ‫(المعرفة‪ -‬السلطة‪ -‬القمع)‪ ،‬بحسب رؤية السلطة‬
   ‫لدى ميشيل فوكو؛ فمن يمتلك المعرفة يتمكن من‬            ‫الفهد الذي التهم أمه يكشر عن أنيابه‪ ،‬فيجري‬
  ‫السلطة ويستطيع أن يباشر سياسات القمع‪ .‬فإن‬           ‫طاكين ويجد حائ ًطا يستند إليه لاهثًا ليجد نفسه‬
    ‫الرواية تقوم بخلق عالم موا ٍز تتسلم فيه بعض‬        ‫فوق قمة جبل وخلفه جارودا تدفعه بيدها وهي‬
  ‫الكائنات والشخوص مفاتيح السلطة ثم تمارسها‬
‫على البشرية قاطبة وتضع البشر في حكم المهمشين‪.‬‬                                             ‫تضحك»‪.‬‬
‫وأخي ًرا‪ ،‬فإن رواية «أبناء حورة» للكاتب عبد الرحيم‬     ‫ويق ِّدم الكاتب النموذج المضاد لذلك في شخصية‬
   ‫كمال عمل متميِّز‪ ،‬يطرح عد ًدا من الجدليات داخل‬       ‫(زيان) ذلك الشاب الذي يستمع إلى كلمات أبي‬
 ‫الإطار المكاني في النص السردي‪ ،‬وقد أدخل الكاتب‬       ‫شوال «ولا يضع لقمة في بطنه أب ًدا بعد أن يشبع‬
  ‫عد ًدا من العناصر لتفجير طاقات جديدة داخل كل‬       ‫ولا يحتفظ بمليم في جيبه»‪ ،‬فلا يجتهد بالبحث عن‬
 ‫مكان من تلك الأمكنة‪ .‬ومن ثم‪ ،‬يطرح الكاتب أبعا ًدا‬      ‫المال وإنما الكنز المعرفي الذي تركه أبناء حورة‪،‬‬
 ‫جديدة ورؤى مغايرة تساعد في الكشف عن مكنون‬            ‫فيج ُّد في السير على خطى قصة موسى والخضر‪،‬‬

                   ‫الصراعات النفسية والإنسانية‬           ‫وتنفتح له الكهوف والقصور حتى يح َّل محل‬
                                                        ‫الحاكم‪ ،‬ولا يلبث أن يشعر بالسجن المعنوي في‬
                                                        ‫أكثر الأماكن رفاهية‪ ،‬يقول «أوقعتني في فخ يا‬
                                                      ‫أبا شوال وأنا لا أطيق ذلك»‪ .‬وعليه‪ ،‬يضع الكاتب‬

                                                          ‫البطل الحقيقي والبطل الزائف قبالة بعضهما‬
                                                       ‫بع ًضا‪( ،‬زيان) الذي يتج َّرد من السلطة ويسعى‬
                                                      ‫للمعرفة الحقيقية في مقابل (طاكين) الذي يسعى‬
   17   18   19   20   21   22   23   24   25   26   27