Page 80 - m
P. 80

‫العـدد ‪59‬‬   ‫‪78‬‬

                                                  ‫نوفمبر ‪٢٠٢3‬‬

       ‫حبيبات رملية على بشرتها الناعمة‪ ،‬تقرصها‬       ‫شعرهما كسنابل حصاد قمح قادم‪ ،‬وبائع البرد‬
‫الرمال‪ ،‬لا تقوى على الهروب خارج ردائها الأسود‪.‬‬     ‫بلحيته الكثة البيضاء يجلس خلف عربته البسيطة‪،‬‬

     ‫تغرس قدميها في رمال الشاطئ المبتلة‪ ،‬ترسم‬         ‫يضحك‪ ،‬ويتمنى كل ما يتمناه بصمت يغرق في‬
  ‫خطوتها كأثر الفراشة على زهرتها المبتلة بالندى‪،‬‬                                      ‫أعماق بحر‪.‬‬
 ‫تتقدم خطوة الخائفة إلى ما سيكون‪ ،‬تشعر بقدمها‬
                                                  ‫يتسارع يافع لم يغادر طفولته بعد إلى كشك قريب‪،‬‬
    ‫تسقط في حفرة أعمق مما تحتمل السقوط إليه‪،‬‬           ‫يشتري الترمس ويرمي قشوره في كل مكان‪،‬‬
    ‫تتقدم فرحة بسقوطها‪ ،‬تبلل قدميها العاجيتين‪،‬‬
                                                      ‫يستطيع نشر فوضى مراهقته المبكرة به‪ .‬عيناه‬
               ‫تلمع عليهما حبيبات الرمل الذهبية‪.‬‬     ‫حائرتان‪ ،‬يتوارى عن عيون الآخرين‪ ،‬خج ًل من‬
   ‫تعوم بجسدها على عمق أكبر‪ ،‬تتسلل المياه داخل‬    ‫السباحة والفتيات‪ ،‬يبحث عن بحر جديد يحمله بكل‬
   ‫ردائها حتى ينتفخ‪ ،‬تشعر بدغدغة تفوق أنوثتها‬      ‫قشوره إلى حيث لا يعلم أحد‪ .‬شاي وقهوة بحبات‬
                                                    ‫هال تفوح رائحتهما من فحمات رجل كبير طاعن‬
     ‫على التحمل‪ ،‬تشعر بشبق أكبر‪ ،‬تعوم أكثر‪ ،‬لا‬      ‫بالسن‪ ،‬يقص قصص البلاد وأيام البلاد لأحفاده‬
       ‫تشعر بأصداف البحر تجترح أسفل قدميها‬          ‫الذين غابت عنهم هذه البلاد‪ ،‬ولا يعلمون عنها إلا‬

     ‫والدماء تنزف‪ ،‬لتكمل مخملية المنظر حتى وإن‬                           ‫من الجد والجدة والتاريخ‪.‬‬
 ‫كانت بدمها الانثوي‪ .‬ألم وشغف يتملكان جسدها‪،‬‬      ‫شابان طائشان على عجلة بخارية مسرع ْين محملين‬
‫رغوة الأمواج تحيطها كسوار مخفوق بغزلة البنات‬      ‫بموسيقى صاخبة‪ ،‬يسابقان الرياح مندف َعين بعكس‬

      ‫والعسل‪ ،‬وما أجمله من سوار حوافه تلتصق‬          ‫هبوبها‪ ،‬يتزينان بقصات شعر؛ كمن يحمل برج‬
      ‫بضياء العسل؛ الذي يمتص رحيقه من لهيب‬        ‫إيفل على رأسه في وسط التاريخ‪ .‬يبعثان بصفيرهما‬

                                        ‫شمس‪.‬‬            ‫ونظراتهما إلى كل فتيات الشاطئ المحتجبات‪،‬‬
    ‫تشيح عينيها بنظرة تلتف السماء‪ ،‬لترى بيا ًضا‬         ‫يتباهيان برجولتهما حتى يعترضهما شرطي‬
 ‫مشر ًقا يحملها كملاك بحر‪ .‬تلامسها نسمات بحر‬           ‫ضخم‪ ،‬فيتوقفان ويسقطان من على عجلتهما‪،‬‬
                                                    ‫وتذهب كل استعراضاتهما هبا ًء منثو ًرا‪ ،‬فتضحك‬
      ‫باردة‪ ،‬تلسعها أكثر مما لسعتها ذرات الرمل‪،‬‬         ‫الفتيات‪ .‬يقول رجل مار للشرطي حيث سقط‬
 ‫تغمض عينيها‪ ،‬تكتم أنفاسها لتغطس تحت الموجة‪،‬‬
‫وما إن أكملت الموجة مسيرها‪ ،‬حتى شعرت بحاجة‬                                               ‫الشابان‪:‬‬
                                                                     ‫‪« -‬اتركهم خليهم مبسوطين»‪.‬‬
   ‫للتنفس من هواء الحياة مرة أخرى‪ ،‬لتقفز فجأة‬     ‫المعاكسات الشبابية تتوالى‪ ،‬منها الطريفة والظريفة‪،‬‬
   ‫وينكشف الرداء أكثر‪ ،‬وتتسارع يداها لشده إلى‬      ‫ومنها المزعجة غير الخفيفة‪ ،‬ولكنها بكل ضجيجها‬
 ‫الأسفل‪ ،‬وهي تسترق أنفاس الحياة‪ ،‬وتحمر خج ًل‬      ‫افتعلت يو ًما حا ًّرا‪ ،‬وساخنًا وممت ًعا احتفا َل بالجميع‬
‫من بروز نهديها‪ ،‬عندما التصق السواد أكثر‪ ،‬وشف‬
                                                                                     ‫على الشاطئ‪.‬‬
     ‫أنوثتها إلى أنظار الجميع‪ .‬يزهر خداها وتبرق‬         ‫أما هي‪ ،‬في انشغال الجميع‪ ،‬تطارد خيالها إلى‬
 ‫عيناها السوداوان كجوهرتين نادرتين‪ ،‬والرموش‬          ‫بحرها‪ ،‬ضجيج الماضي يؤرقها‪ ،‬رداؤها الأسود‬
                                                        ‫يتطاير مع الهواء‪ ،‬ومنديلها يبعث السلام إلى‬
     ‫مبتلة كسهام تعترش جفونها‪ ،‬وتغسلها أشعة‬        ‫نوارس الشاطئ وصهيل الخيل الذي ينمو داخلها‬
     ‫الشمس بهالات الضياء‪ .‬ابتسامتها تملأ الشط‬
   ‫بسعادة لا تنتهي‪ ،‬تشعر بالهواء يهرب خارجها‪،‬‬                 ‫في كل خطوة تتقدمها نحو عمق البحر‪.‬‬
‫تلهث نحو التقاط ولو نفس واحد من أنفاس الهواء‬      ‫شاردة والرياح تحملها كحورية بحر‪ ،‬الماء يكسوها‪،‬‬

                                        ‫الهاربة‪:‬‬   ‫الوقت يسرق خطواتها إلى بحر‪ ،‬لم تعلم أنه تسلل‬
   ‫‪« -‬بدي أسبح أكثر‪ ،‬بدي طير جوا البحر‪ ،‬لو أنا‬                               ‫على غفلة إلى ذاكرتها‪.‬‬

           ‫خفيفة لكنت متل الريشة عسطح المي»‪.‬‬       ‫ما بين عبق الحنين وعبق البحر‪ ،‬تتلاطم الذكريات‬
      ‫سمفونية الهية مألوفة تطرب أذنيها‪ ،‬ليطمئن‬          ‫في عقلها والأمواج على جسدها‪ .‬تشعر بلسعة‬
  ‫قلبها ويألف عرض البحر الموحش‪ ..‬فتفتح عينيها‬
   75   76   77   78   79   80   81   82   83   84   85