Page 77 - m
P. 77

‫‪75‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫القصة‬

      ‫خيا ٌم ومظلا ٌت تتسلق حبالها ألواح الخشب‪،‬‬      ‫البحر حلو‪ ،‬بس شوية مي بالبانيو أريحلي من كل‬
‫ويكسو سطحها جريد النخل ليبعث بنسمات باردة‬                                       ‫هاللبس اللي بيخنق»‪.‬‬

    ‫على وجوه المحبين والحالمين بيوم يسرقهم من‬       ‫تخرج من الغرفة‪ ،‬تمشي بملل باتجاه المطبخ‪ ،‬تبحث‬
 ‫عناء الزمن وإرهاق الحياة‪ .‬تتسلل الأشعة ما بين‬                                             ‫عن أمها‪:‬‬
  ‫الجريد‪ ،‬الذي يحف بتمايله أجرا ًسا تطرطق آذان‬
  ‫السامعين‪ ،‬لترسم خيو ًطا براقة تحيك الجالسين‬           ‫‪« -‬يا الله مش عارفة شو ألبس‪ ،‬طب كيف بدي‬
                                                                                            ‫أسبح؟»‬
                                        ‫بالأمل‪.‬‬
  ‫شاطئ غزة ليس بالنظيف‪ ،‬يفتقد ترتيب أشيائه‪،‬‬                ‫الأم تكمل عملها بسرعة‪ ،‬تتعرق‪ ،‬تعقل عقدة‬
  ‫تتراكم النفايات على رماله‪ ،‬تتناثر خيامه‪ ،‬كومات‬            ‫بمنديلها على رأسها‪ ،‬دون أن تنظر لابنتها‪:‬‬
   ‫قش تبعثر أروا ًحا تؤنس ظلالها‪ .‬هكذا هي غزة‪،‬‬        ‫‪« -‬ترى أنا راسي بدو ينفجر‪ ،‬فشي خلقك بشي‬
‫فتاة لم تتأنق بعد‪ ،‬ولم تحصل على عطرها الخاص‪،‬‬
   ‫لكي تتعطر بعطر الجميع‪ ،‬وإن كان غصبًا عنها‪.‬‬                              ‫تاني‪ ،‬ألبسي اللي تلبسي»‪.‬‬
 ‫تختار العائلة لنفسها خيم ًة لا ينقصها من الجمال‬    ‫تحنق أكثر‪ ،‬حرارة في داخلها أعلى من حرارة الجو‪،‬‬

     ‫إلا ضحكاتهم‪ ،‬وحواديتهم لهذا اليوم السعيد‪.‬‬          ‫تنظر إلى أمها برأفة تارة‪ ،‬وبغضب تار ًة أخرى‪:‬‬
  ‫ك ٌّل يبحث عن ذكرياته‪ ،‬في بحر لا تتوقف أمواجه‬      ‫‪« -‬يا الله بس أنا لمين أشكي همي بس‪ ،‬كلكو هيك‬
  ‫باندفاعها نحو شاطئه‪ ،‬لتوقظ كل مشاعر الحنين‬
                                                                             ‫وخواتي مش فاضيين»‪.‬‬
                ‫والأمل والحرمان من عباءة بحر‪.‬‬        ‫‪« -‬شوفي علي مش خلصت التوجيهي تبعك عشان‬
   ‫الأب لا يعرف السباحة‪ ،‬يدخل ويخرج من عمق‬          ‫تزهقيني‪ ،‬أنا قرفانة أواعيي‪ ،‬خلي هاليوم يمرق على‬
 ‫البحر معتم ًدا على طوله الفارع‪ .‬ماشيًا على قدميه‪،‬‬   ‫خير‪ ،‬دبري حالك وعيشي بما يرضي الله‪ ،‬يا بنتي‬
‫يجلس ليتأمل البحر دون أن يتكلم‪ ،‬حتى يعتقد كل‬
‫من رآه أنه في بحر آخر غير الموجود أمام الجميع‪.‬‬               ‫لا تضلك هيك اللحظة الحلوة ما بترجع»‪.‬‬
‫أما الأم‪ ،‬فلا تشعر بتعبها إلا اذا جلست‪ ،‬تنشغل في‬                         ‫‪« -‬حاضر‪ ،‬أساعدك بشي؟»‬
‫ترتيب خيمتها وأغراضها و َس َلطتها التي تخاف أن‬
‫يمتلئ بقدونسها برمال الهواء‪ ،‬بعد أن أخرجته من‬               ‫‪« -‬لأ بس جهزي حالك الله يرضى عليكي‪،‬‬
 ‫حقيبتها لتبدأ حفلتها في ترتيب مائدة كما لو كانت‬    ‫ويحفظك أنت وأخواتك من شر ولاد وبنات الحرام‪،‬‬

           ‫في بيتها‪ ،‬والفتاة تتأمل والديها بهدوء‪.‬‬                              ‫روحي وأنا داعيتلك»‪.‬‬
       ‫تضحك الجدة بثوبها المطرز‪ ،‬وبين شفتيها‬             ‫ركبوا با ًصا يتسعهم جمي ًعا‪ ،‬واستعدوا لملاقاة‬
  ‫سيجارة تبغ قديم تنفث دخانه‪ ،‬وتغني مواويلها‪،‬‬          ‫البحر بعد طول انقطاع‪ ،‬عله يعيدهم إلى ذكريات‬

               ‫وتسترق النظر إلى حفيدتها المدللة‪:‬‬                       ‫جميلة‪ ،‬ويقدم لهم يو ًما أجمل‪.‬‬
‫‪« -‬قومي روحي يا ستي تسبحيلك شوي‪ ،‬لو بقدر‬               ‫طائرات ورقية تتراقص مع الهواء‪ ،‬زاهية ألوانها‬

                                   ‫باجي معك»‪.‬‬             ‫كقوس قزح‪ ،‬تتحد مع أشعة الشمس المضيئة‬
                                   ‫‪« -‬لحالي؟»‪.‬‬             ‫لتتوهج مرة على زبد الموج‪ ،‬ومرة على رمال‬
                   ‫‪« -‬هو أنت ما لكيش رجلين»‪.‬‬
                                                                                           ‫الشاطئ‪.‬‬
                                       ‫‪« -‬إلي»‪.‬‬             ‫تثقل الرياح برطوبة بحر عتيق‪ ،‬تشتم منها‬
                ‫‪« -‬روحي قبل ما الشمس تبرد»‪.‬‬            ‫روائح بطعمات مختلفة من ذرة‪ ،‬وبطاطا مشوية‬
                                                        ‫على جمرات فحم نارية‪ .‬ياه! ما أجمله من منظر‬
                              ‫‪« -‬هيني رايحة»‪.‬‬             ‫تتصاعد فيه الأبخرة من عربات تبيع الفستق‬
   ‫تعلو ضحكات وقهقهات أخواتها‪ ،‬يتغامزن تارة‬          ‫والبذر الساخن‪ ،‬عربات مزينة بأضواء ككرنفالات‬
                                                         ‫الاحتفال‪ .‬وإن مل اللسان من سخونة تحرقه‪،‬‬
               ‫ويغتبن فلانة وعلانة‪ ،‬تارة أخرى‪:‬‬         ‫تنتظره أكشاك مزرشكة تبيع المثلجات ممزوجة‬
 ‫‪« -‬يا رب سامحنا كل هذا الحديث إنما على سبيل‬        ‫الألوان والنكهات‪ ،‬وما ألذ طعم البوظة عندما تسير‬
                                                       ‫بمحاذاة الشاطئ‪ ،‬ليداعب الهواء جسدك وتنعش‬

                                                                                      ‫النكهة روحك‪.‬‬
   72   73   74   75   76   77   78   79   80   81   82