Page 88 - m
P. 88
العـدد 59 86
نوفمبر ٢٠٢3
الجديد ،فهي رواية هجينة عابرة للأجناس النوعية الحب على حدة ،وحين تنتهي من بوحها الح ِّر
للأدب ،ينصهر في بنيتها مفاهيم سردية كثيرة الطليق ،تبدأ الشخصية الأخري بالتح ُّدث ،كمال
كالسيرة الذاتية والرواية النفسية والفلسفية ثم كريم ثم نورهان ثم دانيا ثم بسام الحائك،
كل يتحدث عن حياته من وجهة نظره الخاصة،
ورواية المنفي والمهجر وتيار الوعي وتكثيف الشعر وتقف من ورائهم جمي ًعا الساردة العلمية التي
وتركيز القصة القصيرة ،مما جعل من هذه الرواية تحكي على ألسنتهم واح ًدا واح ًدا ،وتربط بين كل
هذه التداعيات الحرة خيوط متشابهة متكررة هي
البديعة مواز ًيا تشكيليًّا للهويات عابرة الثقافات، ممارسة تجربة الحب أو الزواج عن بعد في بلاد
تقوم بنيتها الفنية على (فكرة العابر) وما يوازيها الشتات ،وكيف تغلب كل واحد منهم على همومه
الشخصية ومتاعبه السياسية والثقافية ،سواء في
من العبور الأجناسي التشكيلي الموازي الرمزي الوطن أو في بلاد الشتات ،بالحب تارة وبالجنس
للهويات العابرة ،وما تقترحه من صيغة أخرى تارة أخرى وبالكتابة والإبداع تارة ثالثة ،حيث
للوجود الإنساني قائمة على تفكيك التصورات تأتي تجربة الاندغام العنيف بنشاطات الحياة
الراسخة وتوسيع المفاهيم السائدة عن اللغة والحب عن بعد بمثابة قدرة مناضلة وانتصار على غلظة
والدين والخلق والوطن ،التي تكون هوية الروح وعنف وقسوة الواقع المغترب بالعبور فوق مآسيه،
الإنساني ووضعية الأنا الإنسانية في علاقتها بذاتها والتجول بين أوجاعه ،وتحويله من مادة كثيفة
من جهة ،وعلاقتها بغموض والتباس ولا يقينية ثقيلة معتمة إلى حالة من الحياة الظلية العابرة
العالم المعقد المحيط بها من جهة أخرى. الطليقة المتأبية على الثوابت الخانقة ،والحدود
ولقد انسجمت التقنيات السردية البنائية للرواية مع الأخلاقية والفكرية والشعورية الضيقة.
فكرتها ورؤيتها انسجا ًما عمي ًقا ،فمن المعروف أن هوية العابر
شكل الرواية هو شكل العالم ومضمونه ،فالشكل في التأصيل الجمالي والمعرفى
ليس مجرد تصميم جمالي لبنية السرد وكفي ،بل
هو في الأساس إعادة تنظيم تشكيلي وصوغ تخييلي في ظل التطور المعرفي والتكنولوجي والثقافي العولمي
معرفي لطبيعة الذات وعلاقتها بالعالم من حولها. تلاشت الحدود الفاصلة بين الثقافات والأجناس
فثمة تداخل تخييلي وثيق بين الرواية والراوي، والهويات والحضارات والأديان ،واتجه العالم نحو
والناظر والمنظور .وفسوف نجد أثر كل هذه هويات وجودية بينية جديدة قائمة على التداخل
التصورات الفكرية السابقة على كافة البني الفنية والانفتاح والتعدد والانتشار ،حيث لا حدود قطعية
السردية للرواية من حيث بناء الشخصيات والزمان أو حواجز نهائية بين البلاد والعباد بعد أن تداخلت
والمكان والحوار والوصف واللغة والحبكة الروائية. الثقافات والتصورات والأوطان والأديان واللغات،
ومن ثم لا وجود لما هو نهائي أو ح ِّدي أو قطعي أو
واستجابة لهذه الرؤية السردية الجديدة توزع
الشكل السردي للرواية إلى فصول خمسة سارت أحادي .وفي هذا العالم المعقد الجديد غدت الرواية
هي الجنس الجمالي المدني القادر على صهر كل هذا
عبر بنية سردية محكمة موزعة بين حكايات
الرجال والنساء بصورة متوازية متوازنة متطابقة التعدد والتداخل في بنيتها الفنية المرنة المفتوحة
القائمة بطبيعتها على صهر الأنواع أو الأجناس
متفارقة م ًعا ،مجسدة عوالم الشتات والتوزع الجمالية في قالب بنائي قائم على جدليات سردية
والتعدد .ويجب ألا نفهم مفهوم الشتات هنا كوضع
تعددية مفتوحة.
سلبي للوجود الإنسانى؛ بل كما جسدته الرواية ولعل رواية (الكل يقول أحبك) للكاتبة مي
بوصفه وض ًعا إنسانيًّا غنيًّا عاب ًرا قاد ًرا على تفتيت التلمساني تقع في العمق من هذا العالم المعقد
غلظة العالم ورسوخه المدمر ،وتحويل مادته الكثيفة
المعتمة إلى ظلال خصيبة عابرة ،فقد جسدت الرواية
رؤية جديدة للعالم من خلال صيغة أخرى للوجود
كما تصورنا ،وهي صيغة الوجود الإنساني الهش
العابر في عالم مثقل بالشتات والهجرة والتمزق.