Page 92 - m
P. 92

‫العـدد ‪59‬‬                ‫‪90‬‬

                                                     ‫نوفمبر ‪٢٠٢3‬‬

                   ‫وعيهم ولا وعيهم على السواء‪.‬‬       ‫وكأن هذا التشكيل البنائي الرباعي المتوازن للرواية‬
   ‫فقد ترصدت الساردة حركة جميع الشخصيات‬              ‫يشي بوحدة التجربة الإنسانية وتشابهها وتداخلها‬
 ‫كراوية محايدة موظفة تقنيات السينما في تصوير‬
 ‫الشخصيات‪ ،‬كما يشبهها كمال المصري في الرواية‬            ‫بين الرجال والنساء‪ ،‬فليس ثمة ما هو أنثوي في‬
‫«وكأني مخرج أو مصور يجلس على الجانب الآخر‬               ‫مقابل ما هو ذكوري أو العكس‪ ،‬بل كلاهما روح‬
                                                       ‫إنسانية وأوجاع ثقافية وجسدية ووطنية وعالمية‬
      ‫من الممر‪ ،‬يصوب عدسة الكاميرا وينتظر»(‪.)2‬‬
 ‫إن تقنية السرد الذاتي المهيمنة على الرواية من قبل‬        ‫واحدة‪ ،‬تعاني نفس التجربة الإنسانية‪ ،‬تجربة‬
                                                     ‫الشتات والاغتراب والتمزق والتعدد والانقسام بين‬
   ‫جميع شخصياتها النسوية تضعنا في العمق من‬
    ‫تقنية تذويت الكتابة التي هي سمة واضحة من‬             ‫الخارج الأوروبي الذي لم يعد خار ًجا‪ ،‬والداخل‬
 ‫سمات الرواية الجديدة من جهة‪ ،‬والكتابة النسوية‬             ‫العربي الذي لم يعد داخ ًل‪ ،‬فالرواية كما قلنا‬
   ‫من جهة أخرى‪ ،‬ومعني تذويت الكتابة كما يقول‬
‫الناقد والمبدع المغربي الدكتور محمد برادة‪« :‬حرص‬         ‫آن ًفا تطور مفهو ًما جدي ًدا للوجود الإنساني وهو‬
                                                         ‫(هوية العابر)‪ ،‬هادمة هذه الثنائيات الميتافيزيقة‬
      ‫الروائي على إضفاء سمات الذاتية على كتابته‪،‬‬         ‫الوهمية المركزية التقليدية في التصور الإنساني‬
      ‫وذلك من خلال ربط النص بالحياة والتجربة‬           ‫القديم في ثنائية الرجل والمرأة من ناحية‪ ،‬وثنائية‬
  ‫الشخصيتين‪ ،‬وجعل صوت الذات الكاتبة حاض ًرا‬             ‫الشرق والغرب من ناحية أخرى‪ .‬وقد ساعد على‬
   ‫بين الأصوات الروائية لتمييز محتوي النص عن‬
      ‫الخطابات الأخري التي تعطي الأسبقية للقيم‬            ‫نمو هذا الشكل السردي أن معظم شخصيات‬
     ‫والأفكار الغيرية‪ ،‬والحرص على تذويت الكتابة‬          ‫الرواية شخصيات مثقفة وعلي درجة كبيرة من‬
    ‫يقترن بتوفير رؤية للعالم تحمل بصمات الذات‬        ‫الوعي والتأمل والإبداع‪ ،‬سواء الوعي بالأنا العربي‬

                                     ‫الكاتبة»(‪.)3‬‬         ‫أو الوعي بالآخر الغربي‪ ،‬وقد دفع هذا الوعي‬
      ‫إن أهم ما يميز الشخصيات النسوية في هذه‬              ‫الإنساني والثقافي العميق بنية السرد إلى كثير‬
     ‫الرواية تجربتهن الذاتية وما تتميز به من غني‬       ‫من مشاهد الحيوية والدهشة والجدة والتعدد على‬
‫شعوري وفكري أسهم في تشكيل رؤيتهن لذاوتهن‬               ‫كافة مستوىات الخطاب السردي للراوية‪ :‬الزمان‬
  ‫من ناحية‪ ،‬ورؤيتهن للعالم من حولهن من ناحية‬         ‫والمكان والشخصيات واللغة والبنية والحبكة ورؤي‬
      ‫أخرى‪ ،‬وقد تميزت الكتابة الذاتية النسوية في‬
‫الرواية بكل سمات كتابة الذات من حميمية وتمزق‬                                                  ‫العالم‪.‬‬
    ‫وتعدد وغلبة الصوت الداخلي والتعري النفسي‬
    ‫والجسدي والاعترافات والاهتزازات الشعورية‬             ‫لغة الخطاب الروائي‬
‫واللاشعورية وارتجاجات الأفكار والواقع والتحول‬        ‫تذويت السرد وهموم الوجود‬

                     ‫بين التصورات والممارسات‪.‬‬           ‫يتأسس نص الرواية على مركزية الأنا الساردة‬
                                                       ‫العليمة التي جعلت من ذوات شخصيات الرواية‬
           ‫بنية الشخصيات‬
       ‫التعدد والانفتاح والعبور‬                            ‫موضو ًعا للكتابة ملتحمة بالعالم من حولها‪،‬‬
                                                      ‫تستنطق كينونتها وكينونة العالم‪ ،‬وقد أعطي هذا‬
   ‫لقد غلبت بنية العبور على جميع المفاصل البنائية‬    ‫الشكل السردي لتذويت الكتابة جميع الشخصيات‬
   ‫للرواية‪ ،‬ولعل المتأمل في الجذور اللغوية المتعددة‬    ‫الخمسة التي بنيت عليها الرواية فرصة سردية‬

         ‫لمادة (عبر) في المعاجم العربية يضع يديه‬         ‫واسعة من الحرية والحيوية للتعبير الحر عن‬
      ‫على عدة دلالات مهمة لها صلة عميقة بالبنية‬        ‫أفكارها وآرائها وإشكالاتها وطموحاتها وآمالها‬
     ‫السردية للرواية وما تطرحه من رؤى سردية‬           ‫وإحباطاتها بلا عوائق ولا مخاوف‪ .‬وكأن الراوية‬
                                                        ‫العليمة قد تلبست كرنفا ًل تصوير ًّيا مره ًفا من‬
                                                      ‫الذوات الساردة العليمة للشخصيات الخمسة على‬
                                                     ‫طوال البناء السردي‪ ،‬تعرب عن ظاهرهم وباطنهم‪،‬‬
   87   88   89   90   91   92   93   94   95   96   97