Page 89 - m
P. 89

‫نون النسوة ‪8 7‬‬                                                                  ‫ويليام فوكنر‬

‫العنوان شيفرة جمالية تحرض المتلقي لفك رموزها‪،‬‬                    ‫في جماليات العنوان‬
  ‫وحدس ما خلفها من دلالات‪ ،‬وفي ضوء هذا يفتح‬
    ‫عنوان الرواية (الكل يقول أحبك) كوي معرفية‬                ‫فإذا انتقلنا من الفكرة الروائية العامة كما هي‬
    ‫وخيالية أولي نستطيع أن ندلف منها إلى مرامي‬             ‫في الواقع إلى خطاب الحكاية التخييلي المركب من‬
 ‫العالم الروائي كله‪ .‬ولنتأمل هذا العنوان المكون من‬       ‫مجازات وأساليب ورؤي‪ ،‬فإن أول ما يقابلنا بنية‬
   ‫جملية اسمية مكونة من مبتدأ وخبر‪ ،‬حيث يأتي‬             ‫العنوان الروائي الدال للرواية‪( :‬الكل يقول أحبك)‪.‬‬
  ‫المبتدأ اس ًما مجهو ًل غام ًضا ملتب ًسا بلفظة (الكل)‪،‬‬
    ‫فلا نستطيع أن نتبين أي برقة نور تضىء لنا‪،‬‬                ‫إن عناوين النصوص السردية الحديثة لم تعد‬
  ‫أي تحديد لمعني هذا الكل الغامض المجهول‪ ،‬فالكل‬                 ‫مجرد أوعية خارجية وإنما صارت تكوينًا‬
      ‫قد لا يعني شيئًا محد ًدا بصورة مجسدة وإن‬
   ‫كان يعني دلالة تجريدية عامة‪ .‬إنه الكل الغامض‬            ‫نصيًّا بنيو ًّيا أساسيًّا له علاقاته النصية العميقة‬
  ‫الغريب المجهول‪ .‬ثم يأتي الخبر جملة فعلة مكونة‬             ‫بداخل النص وخارجه على السواء‪ ،‬فقد أوضح‬
  ‫من الفعل‪ :‬يقول‪ ،‬والفاعل المجهول الذي يرجع إلى‬              ‫علم اللغة النصي «العلاقة بين مضمون النص‬
    ‫مفرد أو إلى جمع‪ ،‬فلا ندري من الذي قال حتى‬                ‫وعنوانه‪ ،‬وينطلق من ذلك من أن عنوان النص‬
     ‫نفهم ماذا قال؟ لكن القائل يترك لنا فرجة أمل‬          ‫يتأثر باعتبارات سيميولوجية أو إشارية تفيد في‬
 ‫تجريدية شاحبة في هذا الخبر الدال على معني هذا‬             ‫وصف النص ذاته»(‪ .)1‬وبهذه المثابة فإن العنوان‬
   ‫الحب بصورة تجريدية مجهولة من بعيد‪ ،‬وذلك‬                ‫في بنية النص لم يعد مجرد حلية أو محض تقليد‬
 ‫في جملة فعلية (يقول أحبك) على المستوى النحوي‬             ‫أو زخرف‪ ،‬بل غدا عتبة نصيَّة بنائيَّة أساسيَّة في‬
   ‫المجرد‪ ،‬لكنها بلا فعل حب على المستوى الحياتي‬             ‫بنية الرواية‪ ،‬وبؤرة دلالية عميقة عبر مسارها‬
       ‫الفعلي لأنها صادرة من مجهول‪ .‬ولعل تيمة‬             ‫التشكيلي كله‪ ،‬من شأنه الكشف عما تنطوي عليه‬
  ‫الحب التي بنيت عليها الرواية كلها سوف تنضح‬             ‫الرواية من دلالات وتصورات‪ .‬إنه أولي الإشارات‬
   ‫عنها هذه الدلالات البنائية السردية روي ًدا روي ًدا‬       ‫البصرية التي تتلقفها عين القارىء لتوجهه إلى‬
     ‫على طوال المسار السردي للرواية‪ ،‬حيث جميع‬              ‫المتن النصي للرواية فيسهم في توجيه قراءتنا لما‬
 ‫شخصيات الرواية ي َّدعي وص ًل بليلي وليلي لا تقر‬          ‫في النص من علامات لغوية دالة‪ ،‬في ضوء علاقة‬
 ‫لهم بذلك‪ ،‬فالحب هنا مطلب جماعي (الكل يقول‪)..‬‬            ‫العنوان بالنص وعلاقة النص بالعنوان‪ .‬وبذلك غدا‬
 ‫لا فردي‪ ،‬وهو ما يتناقض تما ًما مع حميمية الحب‬
 ‫وما يتطلبه من فردية وخصوصية تكون ولا تنمو‬
    ‫إلا بنماء الذات واستقلالها ونضجها‪ .‬لكن لفظة‬
  ‫(الكل) هنا تطيح بهذا المعني لتنتقل به من مفهوم‬
 ‫الحب العميق المتبادل بين ذات وذات ليكون صيغة‬
    ‫احتياج لا صيغة مودة‪ ،‬نداء جسد يصغي لنداء‬
      ‫جسد ليكون الحب بهذه المثابة هرو ًبا من قيد‬

‫وعزاء من كرب‪ ،‬ورغم عدم قدرة جميع شخصيات‬
      ‫الرواية على ممارسة الحب بالمعني الوجودي‬

    ‫والإنساني العميق‪ ،‬لكنهم رأوا في الحب عو ًضا‬
  ‫عمي ًقا عن مآسي الشتات‪ ،‬فقد كان التيمة المركزية‬
 ‫التي اختفت وراءها كل المآسي الإنسانية والوطنية‬
‫والسياسية‪ ،‬والشرط الإنساني الوحيد لعبور الخط‬
   ‫الغليظ الفاصل بين الحياة والموت في حياة جميع‬
   84   85   86   87   88   89   90   91   92   93   94