Page 118 - merit 45
P. 118

‫العـدد ‪45‬‬   ‫‪116‬‬

                                                        ‫سبتمبر ‪٢٠٢2‬‬

   ‫تزاحموا وجلسوا في قارب مطاطي صغير لا أحد‬              ‫وحي ٌد بلا لغتي التي أقرأ فيها وأكتبها‪ ،‬حتى الأنهار‬
 ‫يقوده إلا رياح مجهولة‪ ،‬غرق نصفهم‪ ،‬ربعهم مات‬                ‫والأشجار والرياح تتحدث هنا لغة أخرى‪ ،‬لكنني‬
                                                             ‫وصلت‪ ،‬وصلت أخرس و ُمح َّملا بمائي وطيني‪،‬‬
   ‫من الغيظ‪ ،‬خمسة منهم قتلهم الندم‪ ،‬اثنان عادوا‪،‬‬            ‫محم ًل بحكاياتي القديمة‪ ،‬أتصدق يا سيدي؟ أنا‬
   ‫أربعة احتجزهم درك الحدود‪ ،‬وبقيت أنا‪ ،‬وحدي‬                                   ‫رج ٌل يقتات على الحكايات‪.‬‬
   ‫أحمل َه َّمهم وصورهم‪ ،‬أحمل أمانتهم وأحلامهم‪،‬‬
                                                        ‫يخرج من الوعاء‪ ،‬يجلس بجانبه‪ ،‬يتخذ وضعية‬
                   ‫كانوا يشبهونني في كل شيء‪.‬‬                                  ‫الراوي في المقاهي القديمة‪.‬‬
‫يصمت قلي ًل‪ ،‬يغطس تحت الماء‪ ،‬يخرج‪ ،‬يضحك‪،‬‬                                         ‫الرجل الجالس في الماء‪:‬‬

                         ‫ثم يبدأ الحديث ثاني ًة‪.‬‬           ‫كان يا ما كان‪ ،‬يا أقسى الأزمان‪ ،‬كان هناك وطن‬
                        ‫الرجل الجالس في الماء‪:‬‬                  ‫طوي ٌل عريض‪ ،‬فيه رمل وصحراء‪ ،‬فيه تراب‬
 ‫اسمع يا سيدي‪ ،‬الحقيقة‪ ،‬الحقيقة أنني كنت أكذب‬
 ‫عليك في كل ما قلت‪ ،‬ولكنني فع ًل أريدك أن تعرف‬             ‫وشمس‪ ،‬فيه أنهار وبحار‪ ،‬فيه زر ٌع وضرع‪ ،‬وفي‬
   ‫الحقيقة‪ ،‬سأعيد عليك القصة من أولها‪ ،‬سأعيدها‬            ‫يوم من الأيام‪ ،‬وأعوذ بالله من الكوابيس السوداء‪،‬‬
       ‫كما حدثت تما ًما من غير زيادة ولا نقصان‪،‬‬           ‫شاهد أهل الوطن في مناماتهم رايا ٍت سوداء تخفق‬
    ‫سأرويها بأمانة المؤرخين ولكن أرجوك‪ ،‬أريدك‬
‫أو ًل أن تجيبني على سؤالي‪ ،‬هل ح ًّقا وصل ُت اليابسة‬          ‫في الهواء‪ ،‬وسيو ٌف ودفوف‪ ،‬وشاهدوا طائرا ٍت‬
   ‫يا سيدي‪ ،‬هل أنا الآن بمأمن من أسنان الحيتان‬               ‫وصواريخ ودبابات تقتلع بيوتهم من جذورها‪،‬‬
      ‫وبرودة الأمواج‪ ،‬وإذا كان الأمر كذلك فلماذا‬
  ‫أشعر بأنني أطفو‪ ،‬لماذا أشتم رائحة الطحالب‪ ،‬هل‬                               ‫فأفاقوا مذعورين وخائفين‪.‬‬
  ‫سترافقني هذه الرائحة طيلة حياتي‪ ،‬ولماذا يجتاح‬                      ‫يضطرب صوته ثم يجهش بالبكاء‪.‬‬
       ‫الملح دمي حتى تتزاحم الدموع تحت جلدي؟‬
‫يقف الرجل الجالس وراء الطاولة‪ ..‬يلملم أوراقه‬                                     ‫الرجل الجالس في الماء‪:‬‬
                   ‫وأقلامه ويخرج من المسرح‪.‬‬                 ‫أتعرف يا سيدي؟ أتمنى أن يكون كل ذلك حل ًما‪،‬‬
                        ‫الرجل الجالس في الماء‪:‬‬             ‫كحادبوث ًسباطثرقييقً ٍةل‪،‬للمكينكلنلأيتسخيَّفل‪،‬هالقأدحد‪،‬حدقتثلفايلأالخواأقخعا‪،‬ه‪،‬‬
     ‫إلى أين تذهب يا سيدي؟ تعال واسمع قصتي‪،‬‬                ‫والجار قتل جاره‪ ،‬ما حدث لن يصدقه أحد‪ ،‬حتى‬
 ‫سأرويها هذه المرة بصدق‪ ،‬أرجوك لا تتركني أكلم‬           ‫الذين شاهدوه وشاركوا فيه أي ًضا لن يصدقوا‪ ،‬كيف‬
‫الرياح‪ ،‬لا تتركني كالراوي الذي لا يستمع إليه أحد‪،‬‬           ‫تح َّولنا فجأ ًة إلى وحوش‪ ،‬نحن الشعراء والعمال‬
 ‫انتظر‪ ،‬انتظر‪ ،‬لا ترحل‪ ،‬هناك أشياء مهمة يجب أن‬               ‫والتجار والباعة‪ ،‬كيف تركنا مكاتبنا وطاولاتنا‬
                                                        ‫ودكاكيننا وذهبنا إلى الخنادق؟ متى تعلمنا استعمال‬
                              ‫تكتبها في أوراقك‪..‬‬          ‫البندقية؟ كل ذلك حصل بسرعة‪ ،‬بسرعة كمن فتح‬
 ‫يحاول أن يتبعه بسرعة‪ ،‬ينقلب الوعاء ويسيل‬                  ‫الأقفاص للذئاب فخرجت بكامل جنونها كي تفتك‬
                                                        ‫بالناس‪ ،‬لقد ضاع كل شيء‪ ،‬ضاعت الأغاني والناس‬
                        ‫الماء على أرض المسرح‪..‬‬             ‫والبيوت والطرقات‪ ،‬ضاع الضحك وضاع البكاء‪،‬‬
                        ‫الرجل الجالس في الماء‪:‬‬            ‫ضاعت القصص والحكايات‪ ،‬وأنا رج ٌل يقتات على‬
                 ‫يا إلهي‪ ..‬الماء‪ ..‬الماء‪ ..‬إني أختنق‪..‬‬    ‫الحكايات‪ ،‬فهل تعرف من أنا الآن؟ عليك أن تعرف‬
                    ‫ستار‬                                ‫كي تكتب في أوراقك شيئًا مفي ًدا‪ ،‬لقد ضاع كل شيء‪،‬‬
                    ‫النهاية‬                                ‫الهواء والشجر والتراب والماء‪ ..‬يا إلهي الماء! الماء!‬
                                                          ‫يهرب بخوف وبسرعة باتجاه الوعاء ويجلس‬
                              ‫هوامش‪:‬‬
                                                                      ‫فيه‪ ،‬ويبدأ حديثه بإيقاع متسارع‪.‬‬
                         ‫‪ -1‬الأبيات لمجنون ليلى‪.‬‬                                 ‫الرجل الجالس في الماء‪:‬‬
                ‫‪ -2‬الأبيات للشاعر أحمد شوقي‪.‬‬
              ‫‪ -3‬الأبيات للشاعر فاروق جويدة‪.‬‬            ‫كان يا ما كان‪ ،‬قارب فيه مئة رجل‪ ،‬أرادوا أن يعبروا‬
                                                         ‫البحر كي يهربوا من النار التي اشتعلت في بيوتهم‪،‬‬
   113   114   115   116   117   118   119   120   121   122   123