Page 122 - merit 45
P. 122

‫العـدد ‪45‬‬   ‫‪120‬‬

                                                    ‫سبتمبر ‪٢٠٢2‬‬

     ‫بالأوصاف التالية‪« :‬كنت أختنق تحت السقف‬             ‫الاجتماعي الذي يصيب المرأة في مراحل مختلفة‬
         ‫يا أروى‪ ،‬كل شيء يحدث في هذه الغرفة‪،‬‬            ‫من حياتها لمسببات ذكورية خارجة عن إرادتها‪.‬‬
                                                     ‫وتبلغ الرؤية السردية عند الكاتبة ‪-‬لتلك الشخصية‬
      ‫الواجب تحلينه وحدك في الليل‪ ،‬تسهرين على‬            ‫المغتربة‪ -‬ذروتها في مشهد يعالج باقتدار كافة‬
         ‫الطاولة الواطئة نفسها‪ ،‬على نور الإضاءة‬        ‫أنواع الاغتراب التي أحاطت بها حين قالت‪« :‬كان‬
                                                    ‫وجهها محتقنًا وعاب ًسا‪ ،‬لن يهدم عبوسه شيء‪ ،‬ذاب‬
 ‫الأصفر‪ ،‬تبقين هكذا حتى تنتهي‪ ،‬ثم أنتهي مع كل‬            ‫حاجباها وعيناها الجميلتان في كتلة لحم واحدة‬
   ‫أخطاء العالم‪ ،‬فقط كي أنتهي»‪( .‬الرواية‪ ،‬ص‪)54‬‬        ‫وملتهبة‪ ،‬كعين في منتصف الرأس‪ ،‬تنظر إل َّي نظرة‬
                                                     ‫قديمة‪ ،‬نظرة يوم ميلادي الأول‪ ،‬بعد أن تلقتني من‬
 ‫أما «مريم» فنجدها تعيش منذ الطفولة في حالة من‬      ‫الأطباء على سريرها منهكة‪ ،‬كانت ممتنة لأن المعجزة‬
‫الانفصال عن أسرتها‪ ،‬فهي في غربة دائمة عن أبيها‬       ‫تحققت وأنجبتني‪ ،‬حزينة تريد أن تبكي لأنني جئت‬
‫ومتقطعة عن أمها‪ ،‬وتظهر تلك الحالة في ممارساتها‬         ‫بنتًا كما تمنتني‪ ،‬حاولت أمي أن تنتحر يومذاك يا‬
 ‫اليومية معهما كما تكشف الأحداث‪ .‬ولذلك‪ ،‬نلاحظ‬        ‫مريم‪ ،‬رأيتها وهي تكتم أنفاسها‪ ،‬فبكيت بحرقة كي‬
                                                     ‫أهدئ روعها‪ ،‬لم تمت ماما‪ ،‬واصلت عيناها التحديق‬
    ‫حالة الاغتراب الوجودي ترافق الشخصية منذ‬
    ‫الميلاد الذي وصفته بـ»النهاية» التي تمت رغ ًما‬        ‫ف َّي کمرکز للخيبة‪ ،‬مركز لن يصده أحد عن‬
  ‫عنها‪ ،‬لتبرز أزمتها الوجودية التي انعكست طوال‬      ‫ملاحقة المخيب حتى باب القبر‪ ،‬كلعنة كما يصفون»‪.‬‬
     ‫السرد في شكل أحاسيس سلبية تجعل حياتها‬
    ‫سلسلة من الإحباطات والانكسارات والخيبات‬                                    ‫(الرواية‪ ،‬ص‪)20 ،19‬‬
                                                        ‫وهنا كان الحكي هو نافذة الخلاص لـ»صديقة»‬
       ‫المتتالية التي تتعرض لها في جميع علاقاتها‬        ‫تمارسه طوال الوقت حتى وإن لم يكن هناك من‬
 ‫الاجتماعية‪ ،‬سواء في العمل أو مع الأصدقاء وحتى‬
                                                           ‫يستمع‪ ،‬فكانت الحكايات التي ترويها معاد ًل‬
    ‫مع الغرباء بالأسواق وبالشوارع‪« :‬مجرد كيان‬               ‫موضوعيًّا للتغلب على الغربة والخلاص من‬
‫مضاف إلى عدد لا نهائي من الكيانات‪ ،‬يولد ويعيش‬       ‫الإحباطات الراكدة على روحها‪ ،‬حيث تحكي دو ًما ما‬
                                                    ‫عاشته من «أيام سودا كتير» فتنطلق وتتحرر‪« :‬ماما‬
  ‫ويموت كما ولد وعاش ومات السابقون‪ ،‬دون أن‬          ‫أي ًضا كان عندها حكايات‪ ،‬عاشت عالقة فيها‪ ،‬بلا أي‬
 ‫يلتقط الكون أنفاسه‪ ،‬أو يرغب في إحصاء خسائره‬          ‫صباحات‪ ،‬وحين تقرر روايتها‪ ،‬لا يعنيها أن يسمع‬
                                                     ‫أحد‪ ،‬كأنها تحكي للحياة نفسها‪ ،‬قالت لي إن الحكي‬
       ‫وتمييزها عن انتصاراته»‪( .‬الرواية‪ ،‬ص‪)13‬‬          ‫هو المنقذ من الموت‪ ،‬ظلت ماما تحكي حتى ماتت‪،‬‬
   ‫وكانت وسيلة الطفلة الصغيرة «مريم» للخلاص‬          ‫وسأظل أسمع حكاياتها تتكرر إلى الأبد»‪( .‬الرواية‪،‬‬
 ‫من جحيمها الخاص الذي يشعرها بأنها «مجرد لا‬
                                                                                       ‫ص‪)28 -27‬‬
     ‫شيء»‪ ،‬هي كذلك الاستماع إلى الحكايات ‪-‬من‬              ‫وقد نجحت الكاتبة في تكثيف حالة الانهزامية‬
       ‫الأم وبعدها الجدة‪ -‬وإعادة حكي الحكايات‬            ‫التي تصيب الشخصية‪ ،‬وكل المحيطين بها‪ ،‬من‬
       ‫وترتيبها بالبدايات والنهايات التي تشتهيها‪.‬‬       ‫خلال وصف البيت ‪-‬كمحيط مكاني تتحرك فيه‬
        ‫ولعل فتنة الحكي التي أصابت شخصيات‬             ‫الشخصيات تؤثر فيه وتتأثر به‪ -‬بمفردات سلبية‬
           ‫الرواية ‪-‬مريم الصغيرة وأمها صديقة‬            ‫تجسد أزمة ساكنيه وتكشف عن بحثهم المستمر‬
       ‫وجدتها أم كلثوم‪ -‬من أهم ملامح الخلاص‬               ‫عن الاحتواء‪ .‬فرغم أن البيت هو رمز السكينة‬
          ‫الذي تمثلته تلك النسوة كسلاح في وجة‬       ‫والأمان فنجده لدى أسرة «مريم» يشبه «السجن» أو‬
                ‫أزماتهن الوجودية وكسبيل أخير‬        ‫«الحفرة»‪ ،‬كما أنه «بيت مضجر» عبارة عن «غرفة لا‬
                   ‫للحفاظ على الذات‪« :‬أن تكوني‬      ‫تدخلها الشمس»‪ ،‬ويضم «حديقة صفراء ذابلة معظم‬
               ‫صغيرة عائشة في غرفة مستطيلة‪،‬‬         ‫العام»‪ ،‬ونلمح ذلك الاضطراب في تصوير «مريم» له‬
                 ‫مقسمة إلى غرفتين أصغر‪ ،‬وذلك‬
                   ‫كل بيتك‪ ،‬ترين الشمس قلي ًل‪،‬‬
                ‫وبلا أصحاب ولا إخوة‪ ،‬يعني أنه‬
                 ‫لن يكون سه ًل عليك الإفلات من‬
                    ‫الحكايات»‪( .‬الرواية‪ ،‬ص‪)25‬‬
   117   118   119   120   121   122   123   124   125   126   127