Page 99 - merit 46 oct 2022
P. 99

‫‪97‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

  ‫قصة حب تمنى قلبي نفسه ذات يوم أن يعيشها‪.‬‬            ‫قالت‪ :‬لا‪ ..‬كريم في الجيش الآن‪ ،‬وستنتهي خدمته‬
       ‫هناك‪ ،‬لم أجد مي التي أعرفها؛ واجم ًة كانت‬                               ‫هذاالشهر‪ ،‬وسنتزوج‪.‬‬

    ‫وشاردة‪ ،‬زائغة العينين وكأنها تبحث عن شيء‬         ‫ثم أردفت‪ :‬لم يأ ِت منذ ثلاثة وعشرين يو ًما‪ ..‬تأخر‬
      ‫فقدته‪ .‬انطفأ بريق عينيها الجميلتين‪ ،‬وشحب‬                    ‫يومين عن إجازته المعتادة هذه المرة‪.‬‬

    ‫وجهها‪ ،‬وزاده شحو ًبا ذلك الرداء الأسود الذي‬      ‫حانت مني التفاتة إلى داخل الكشك‪ ،‬فرأيت الفتاتين‬
   ‫كانت تتشح به‪ .‬قبالتها‪ ،‬كانت الفتاتان الأخريان‬          ‫الأخريين منشغلتين بتنسيق الزهور‪ :‬إحداهما‬
    ‫تجلسان بوجهين محايدين تما ًما؛ لم أستطع أن‬
    ‫أستنتج من سحنة أ ٍّي منهما ما حدث‪ .‬بعد قليل‬      ‫سمراء‪ ،‬متوسطة الطول‪ ،‬نحيفة‪ .‬والأخرى متوسطة‬
    ‫دخل الشاب الآخر ‪-‬زميل كريم في العمل‪ -‬بعد‬          ‫الطول أي ًضا‪ ،‬لكنها بيضاء البشرة‪ ،‬معتدلة القوام‪.‬‬
    ‫أن ترك دراجته في الخارج‪ ،‬وناول مي شيئًا ما‬           ‫ربما كانتا تستعدان للانصراف في ذلك الوقت‪.‬‬
   ‫في يدها‪ ،‬فتناولته في صمت‪ ،‬ولكنها عندما رفعت‬          ‫هممت بالانصراف أنا أي ًضا‪ ،‬ولكن مي مالت إل َّي‬
 ‫رأسها رأتني‪ ،‬فأجهشت بنوبة بكاء‪ ،‬تبعته بصراخ‬            ‫وهي تشير صوب الفتاة البيضاء‪ ،‬وتهمس‪ :‬هذه‬
                                                                                 ‫البنت معجبة بكريم‪.‬‬
     ‫ملتاع‪ ،‬وهي تلطم وجهها بيديها‪ ،‬حتى أدركها‬            ‫سألتها منده ًشا‪ :‬ولماذا ُتبقينها في العمل عندك؟‬
  ‫الفتاتان ورجل وامرأة دخلا المحل لتوهما‪ ،‬عرفت‬         ‫قالت بنبرة هادئة‪ :‬لأثبت لنفسي ولها كل يوم أنه‬
                                                                          ‫يحبني أنا‪ ،‬ويفضلني عليها‪.‬‬
            ‫من ذلك الشاب فيما بعد أنهما والداها‪.‬‬     ‫أردت أن أحذرها‪ ،‬ولكنها نهضت فجأ ًة وهي تتطلع‬
       ‫في قاعة المحكمة‪ ،‬كان ذلك الرجل وتلك المرأة‬      ‫إلى الرصيف المقابل‪ .‬تو َّرد وجهها‪ ،‬وتل َّون بألوان‬
   ‫يجلسان إلى يسار مي‪ ،‬وخلفهم الفتاتان والشاب‬          ‫كثيرة‪ ،‬فلم أعد أدري‪ :‬أتبتسم هي‪ ،‬أم تتهيأ للبكاء‬
‫العاملون بالمحل‪ .‬جلست عن يمينها أطمئنها‪ ،‬وأدعو‬             ‫والع ْدو؟ استدرت بوجهي إلى مرمى بصرها‪،‬‬
      ‫الله من كل قلبي أن يب ِّرئ حبيبها كريم‪ ،‬الذي‬     ‫فوجدت شا ًبا ضئي ًل يعبر الشارع‪ ،‬لا ينظر يمينًا‬
  ‫كان يقف في القفص متَّه ًما ‪-‬زو ًرا كما أقسمت لي‬    ‫ولا يسا ًرا‪ ..‬فقط‪ ،‬ينظر صوب عيني مي‪ ،‬وهو يكاد‬
   ‫مي قبل الجلسة‪ -‬بترويج المخدرات بعد إخفائها‬                                             ‫يطير إليها‪.‬‬
   ‫في سلال وباقات الزهور التي يوزعها بدراجته‪.‬‬             ‫لم أكن في حاجة إلى أن تع ِّرفنا مي إلى بعضنا؛‬
  ‫أقسمت لي‪ ،‬وهي تبكي بكا ًء مري ًرا‪ ،‬على أن أحدهم‬      ‫لقد رأيته في عينيها‪ .‬قرأت اسمه على وجهها وهي‬
     ‫دس له المخدرات في السلة‪ .‬ما إن أُعلن الحكم‪،‬‬        ‫تستقبله‪ ،‬وعلى يديها المرتجفتين وهي تصافحه‪.‬‬
 ‫حتى انهارت مي‪ ،‬وسقطت‪ .‬رأيتهم حولها جميعهم‬           ‫وعندما نطقت اسمه بلسانها‪ ،‬خرجت حروفه أشبه‬
  ‫يبكون‪ :‬أمها‪ ،‬وأباها‪ ،‬والفتاتين‪ ،‬والشاب‪ .‬رأيت في‬
   ‫عيني كل منهم نص ًل حا ًّدا يقطر د ًما من دمائها‪.‬‬  ‫براقصات الباليه؛ تطأ أقدامهن أذن َّي وقلبي‪ ،‬فأشعر‬
‫على مدى أعوام طويلة‪ ،‬يسوقني قلبي كل يوم قبيل‬           ‫بها ‪-‬على رغم رشاقة خطواتهن‪ -‬وكأنها صخور‬
   ‫الغروب إلى شاطئ النهر‪ .‬أمر بالكشك الزجاجي‬                                              ‫من الجمر‪.‬‬
    ‫المهجور المقابل للشاطئ‪ .‬أراقب العشاق أزوا ًجا‬        ‫مضى نحو شهرين‪ ،‬وأنا لا أستطيع أن أتحرك‬
      ‫أزوا ًجا‪ :‬العيون مرشوقة في العيون‪ ،‬والأذرع‬
       ‫تحتضن الأكتاف‪ ،‬والأكف نائمة في أحضان‬          ‫خطوة واحدة صوب النهر‪ ..‬كيف‪ ،‬ول َم؟ ربما لأنني‬
   ‫بعضها‪ ،‬والشفاه تهمس‪ ..‬تستقبلني «مريم» ابنة‬             ‫لم أجد في قلبي الشجاعة لتح ُّمل أن تكون مي‬
    ‫السنوات العشر التي ارتضت أن أناديها «مي»‪،‬‬
     ‫أشتري منها وردتين‪ ،‬أختار مكا ًنا شاغ ًرا بين‬      ‫مجرد صديقة وثقت بي‪ ،‬وأفضت إل َّي بأسرار قد‬
‫ثنائيات العشاق‪ ،‬وأجلس مواج ًها للنهر‪ .‬على صفحة‬         ‫لا تعرفها صديقة مقربة إليها‪ .‬تحاملت على قلبي‬
 ‫مياهه أرى وجه حبيبتي‪ .‬مع رحيل الشمس‪ ،‬أرحل‬              ‫المنهك‪ ،‬وقررت الذهاب بعد أن عزمت ‪-‬حف ًظا لما‬
‫ملقيًا للنهر بالوردتين‪ :‬واحدة لميّ‪ ،‬وواحدة لحبيبها‪.‬‬  ‫تبقى من ماء وجهي‪ -‬على أن أ َّدعي أن سبب تغ ُّيبي‬
                                                      ‫طوال هذه الفترة وقوعي في قصة حب ملتهبة‪ ..‬في‬
                                                        ‫الطريق‪ ،‬راقني أن أنحاز إلى عقلي وهو يشن على‬
                                                      ‫قلبي حملة تقريع عنيفة؛ بسبب أنانيته وغيرته من‬
   94   95   96   97   98   99   100   101   102   103   104