Page 61 - merit 41- may 2022
P. 61

‫‪59‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

  ‫حية»(‪ .)5‬ولذلك‪ ،‬يجب ربط تطور اللغة بتطور المجتمع‬         ‫الأدب والنقد‪ ،‬وسيتأكد لنا هذا الأمر‪ ،‬من خلال جرد‬
            ‫بدل العمل على إقبارها كما يفعل البعض‪.‬‬            ‫تلك الآراء والتصورات وتجميعها في نقاط محددة‪.‬‬
                                                                             ‫‪ -1 /1‬في مجال النقد الأدبي‪:‬‬
      ‫فقد دعانا ُنعيمة إلى التعامل بشكل جيد مع اللغة‬
‫واعتبارها أداة التواصل ومادة للكتابة والإنتاج الأدبي‪.‬‬       ‫يحدد نعيمة القصد من النقد الأدبي في “التمييز بين‬
                                                            ‫الصالح والطالح‪ ،‬بين الجميل والقبيح»(‪ .)1‬وقد لاحظ‬
   ‫وبالتالي‪ ،‬يجب تهذيبها وتنسيقها بهدف إعطائها دقة‬           ‫أي ًضا أن النقد عند العرب لم ينل حقه من الدراسة؛‬
                              ‫تساهم في تطويرها‪.‬‬
                                                              ‫لأنهم يجهلون دور النقد والناقد‪ .‬ولهذا‪ ،‬فإن دور‬
                         ‫‪ -3 /1‬المقاييس الأدبية‪:‬‬          ‫الناقد ينبغي أن يكون منصبًّا على تغيير هذه الفكرة في‬
 ‫لقد أعلى نعيمة من شأن النقد الذاتي وأكد عليه‪ ،‬فذهب‬
  ‫إلى «أن لكل ناقد غرباله ولك ٍّل مقاييسه وموازينه»(‪،)6‬‬     ‫أذهان الناس‪ ،‬وعلى القارئ أن يعرف أن مهمة الناقد‬
                                                          ‫ليست مقتصرة على تقويم الآثار‪ ،‬وبيان نقاط القوة أو‬
   ‫ومن ثم‪ ،‬على النقاد أن يحظوا بصفة مشتركة‪ ،‬وهي‬
    ‫«قوة التمييز الفطرية»‪ ،‬لأنهم‪ ،‬بمساعدة هذه القوة‪،‬‬        ‫الضعف فيها؛ بل أي ًضا إن عمله شبيه بعمل الصائغ‬
‫يضعون معايير خاصة لأنفسهم‪ ،‬بحيث إن من فقدها لا‬              ‫الذي ينظر إلى قطع من المعادن‪ ،‬ويفصل بعضها عن‬
 ‫يمكنه أن يكون ناق ًدا يخلق أحكا ًما وقواعد تختص به‪،‬‬         ‫بعض‪ ،‬فيس ِّمي واحدة منها الذهب والأخرى شبهه‪،‬‬
‫فينقد على معايير الآخرين‪ ،‬ولا يفيد نفسه ولا الأدب(‪.)7‬‬       ‫وعند ذلك تح ُّل الواحدة مكان الأخرى‪ ،‬فهذا ما يقوم‬
     ‫إننا إذا تأملنا آراءه في هذه النقطة سنجد نو ًعا من‬   ‫به الناقد؛ زد على ذلك‪ ،‬أنه ليس بمقوم فحسب‪ ،‬بل هو‬
     ‫الازدواجية فيها‪ ،‬إذ إنه مرة يدعو النقاد إلى ابتكار‬
‫معايير جديدة‪ ،‬فيقول «فالناقد الذي ينقد حسب القواعد‬                                  ‫مبدع ومولِّد ومرشد(‪.)2‬‬
‫التي وضعها سواه لا ينفع نفسه ولا منقوده ولا الأدب‬        ‫فالناقد‪ ،‬بهذا المعنى‪ ،‬مبدع؛ مثله مثل الأديب؛ لأنه عندما‬
  ‫بشيء‪ ،‬إذ لو كانت لنا قواعد ثابتة لتمييز الجميل من‬
   ‫الشنيع‪ ،‬والصحيح من الفاسد‪ ،‬لما كان من حاجة بنا‬          ‫يضع المقاييس الأدبية يكشف نفسه للآخرين‪ ،‬ويولد‬
  ‫إلى النقد والناقدين‪ ،‬بل كان من السهل على كل قارئ‬          ‫أفكا ًرا جديدة‪« ،‬فهو إذا استحسن أم ًرا لا يستحسنه‬
‫أن يأخذ تلك القواعد ويطبق عليها ما يقرؤه»(‪ ،)8‬ونجده‬      ‫لأنه حسن في ذاته‪ ،‬بل لأنه ينطبق على آرائه في الحسن‪،‬‬
   ‫يقول في سياق آخر “إذا صح أن مقاييسنا القيمية‪-‬‬           ‫وكذلك إذا استهجن أم ًرا فلعدم انطباق ذلك الأمر على‬
    ‫ومنها مقاييسنا الأدبية‪ -‬ليست سوى أزياء تتبدل‬          ‫مقاييسه الفنية‪ ،‬فللناقد آراؤه في الجمال والحق‪ ،‬وهذه‬
    ‫بتبدل الأيام والأماكن والأذواق والمدارك‪ ،‬فما النفع‬     ‫الآراء هي بنات ساعات جهاده الروحي»(‪ .)3‬مؤسسة‬
 ‫من جهدنا في التمييز بين الأمور والفصل ما بين غثها‬
 ‫وسمينها؟ أ َولسنا صارفين ه َّمنا س ًدى كلما حاولنا أن‬                ‫نوفل‪ ،‬بيروت لبنان‪ /‬الطبعة ‪.1981 ،12‬‬
   ‫نفرق بين الجميل والقبيح‪ ،‬والنافع والضار والخطأ‬             ‫وبما أن النقد لا يخضع لقواعد ثابتة‪ ،‬فإن علاقته‬
    ‫والصحيح؟ فمن ذا يكفل لنا ما ندعوه اليوم جمي ًل‬         ‫بالأدب تتأسس‪-‬حسب نعيمة‪ -‬على ذوق الناقد ونيته‬
                                                           ‫في الإخلاص أثناء التمييز النظري‪ ،‬بمعنى أنها علاقة‬
      ‫وناف ًعا وصحي ًحا لا يصبح في الغد قبي ًحا وضا ًرا‬  ‫عاطفية تجمع بين ذاتين (الكاتب المبدع والكاتب الناقد)‪.‬‬
   ‫وفاس ًدا؟ (‪ )..‬أ َوليس في الأدب من أزياء لا تعتق مع‬     ‫إلا أن الناقد (أي الذات الثانية)‪ ،‬لا تنحصر مهمته في‬
                                                          ‫التمييز بين الصالح والطالح‪ ،‬بين الجميل والقبيح؛ كما‬
         ‫الزمان ولا تزيدها الأيام إلا جما ًل وهيبة»(‪.)9‬‬   ‫أن فضله لا ينحصر في التمحيص والتثمين والترتيب‪،‬‬
    ‫والمقاييس التي يريدها نعيمة ينبغي أن تتوافق مع‬
   ‫حاجات الناس النفسية‪ ،‬فالأدب يقاس بناء على هذا‪،‬‬                    ‫وإنما هو «مبدع» و «مولِّد» و»مرشد»(‪.)4‬‬
    ‫ووف ًقا لحاجات الناس الروحية‪ .‬ويحدد نعيمة هذه‬                                  ‫‪ -2 /1‬في مجال اللغة‪:‬‬

                        ‫الحاجات في أربع‪ ،‬وهي(‪:)10‬‬             ‫تحظى اللغة عند ميخائيل نعيمة بأهمية كبيرة في‬
    ‫‪ -1‬حاجة الإنسان إلى التعبير عما يجول في نفسه‪،‬‬           ‫كتاب الغربال‪ ،‬فهي بمثابة مؤسسة إنسانية ابتدعها‬
  ‫عن حالاته الروحية؛ من رجاء ويأس‪ ،‬وفوز وإخفاق‪،‬‬            ‫الإنسان من أجل التواصل‪ .‬ومن ثم‪ ،‬فإن تطورها أمر‬
  ‫وإيمان وشك‪ ،‬وحب وكره‪ ،‬ولذة وألم‪ ،‬وحزن وفرح‪.‬‬              ‫حتمي يرتبط بتغير الإنسان‪ ،‬لأنها كائن حي يتعرض‬

                                                              ‫للانقراض والموت‪ ،‬فهي «كالشجرة تب ِّدل أغصانها‬
                                                               ‫اليابسة بأغصان خضراء وأوراقها الميتة بأوراق‬
   56   57   58   59   60   61   62   63   64   65   66