Page 57 - merit 41- may 2022
P. 57

‫‪55‬‬           ‫إبداع ومبدعون‬

             ‫رؤى نقدية‬

‫محمد الداهي‬  ‫عبد الرحيم جيران‬                        ‫كما نجد أن الهوية السردية لا تنحصر في الوساطة‬
                                                       ‫بين الزمن الظاهراتي والزمن النفسي‪ ،‬بل تتعداها‬
  ‫والهوية الذاتية؛ أي بين الهوية الثابتة والمتطابقة‬      ‫إلى الهوية الشخصية التي ينتقدها بول ريكور‪،‬‬
  ‫والمتماثلة مع نفسها ومع الآخرين‪ ،‬التي لا تتغير‬         ‫مش ِّخ ًصا نقصها في غياب البعد الزمني الخاص‬
  ‫بفعل الزمن‪ ،‬وتحافظ على نفس العناصر (الهوية‬              ‫بالذات‪ ،‬حينما يتم تعريفها من منظور التطابق‬
‫العينية)‪ ،‬في حين أن الهوية الذاتية لا تؤمن بالثبات‬         ‫والتشابه مع الذوات الأخرى‪ ،‬وبالتالي لم يتم‬
                                                       ‫أخذ بعين الاعتبار البعد التاريخي للشخص الذي‬
    ‫في المكان والزمان‪ ،‬وتعتمد على المكون اللغوي‪،‬‬      ‫نتكلم عنه‪ ،‬وانتماؤه إلى محيط ثقافي معين‪ ،‬وسياق‬
  ‫وتجربة السرد في إثبات الذات‪ ،‬خصو ًصا عندما‬          ‫اجتماعي يأطره‪ ،‬وبعد زماني خاص بوجوده الذي‬
  ‫تشعر بأن وجودها مهدد في الواقع ومزيف على‬               ‫لا يمكن إخضاعه للزمن العادي‪ ،‬كما أنه لم يتم‬
                                                          ‫تناول الهوية من زاوية متعددة ديناميكية‪ ،‬مما‬
                               ‫مستوى الخيال‪.‬‬          ‫يشرع لذلك سرد الذات للغير‪ ،‬وسرد الغير لذاتنا‪،‬‬
    ‫وتشكل الهوية الشخصية الأرضية التي تدور‬                ‫وسرد الذات لذاتنا عبر الحكي؛ بمعنى أن لكل‬
   ‫حولها عمود الرحى بين الهوية العينية والهوية‬          ‫ذات زمان خاص بها بعي ًدا عن التطابق والتشابه‬
    ‫الذاتية‪ ،‬حيث يصيب الذات عطب عندما تتجمد‬               ‫المشترك‪ ،‬لأن التطابق يؤدي إلى ضمور الهوية‬
 ‫الهوية العينية عند الطبع الذي هو عند ريكور ذو‬         ‫الذاتية‪ ،‬بجعلها هوية متشابهة ثابتة غير متغيرة‪.‬‬
   ‫طبيعة جامدة يشبه اللاوعي‪ ،‬أي أنه خارج عن‬             ‫لكن هل الهوية التي يتصورها أو يسردها الآخر‬
‫إرادة الذات‪ ،‬وبالتالي يجعل الهوية الذاتية ثابتة مما‬   ‫عنا متشابهة مع ذاتنا‪ ،‬ومرغوب بها؟ أم أن النسق‬
  ‫يص ِّعب مهمة سرد الذات ومعرفتها على مستوى‬
   ‫الهوية السردية‪ ،‬بحيث تدور بين الهوية العينية‬      ‫الفكري والثقافي المسيطر يجعل من تصور الآخر لنا‬
   ‫والهوية الذاتية مواجهة مباشرة لا تجد تحققها‬                                      ‫محكو ًما بسلطته؟‬
   ‫وتجسدها إلا من خلال مفهوم الهوية السردية‪،‬‬
‫الذي يرد على التناقضات والمفارقات التي تقع فيها‬         ‫يقترح ريكور لتعويض نقص الهوية الشخصية‬
‫الهوية الشخصية‪ ،‬أو الاضطراب والضمور خاصة‬                    ‫ضمن البعد الزمني للوجود الإنساني‪ ،‬إعادة‬

                                                       ‫الاعتبار للنظرية السردية من زاوية مساهمتها في‬
                                                     ‫تشكيل هوية الذات‪ ،‬عن طريق تسريد هذه الأخيرة‬
                                                      ‫على مستوى النص بواسطة الخيال وليس التاريخ‪،‬‬

                                                            ‫لأن الخيال يلعب دو ًرا مه ًّما وليست الوقائع‬
                                                        ‫التاريخية في فهم الذات‪ ،‬فالهوية السردية‪ ‬تظهر‬
                                                        ‫بشكل أفضل حين يروي أحدهم قصة حياته‪ ،‬أو‬
                                                         ‫تروي مجموعة معينة ذاكرة ماضيها‪ ،‬أو يروي‬
                                                      ‫القاص حكاية‪ ،‬وبالتالي يعد الخيال العمود الفقري‬
                                                         ‫في تشكيل الهوية الذاتية‪ ،‬لأن الخيال عندما يتم‬

                                                          ‫حكيه أو تسريده بواسطة الحكي الشفاهي أو‬
                                                     ‫كتابته على شكل نص‪ ،‬فإنه يعطي صورة أقرب إلى‬
                                                     ‫الاكتمال عن حياة الذات وهويتها‪ ،‬ويستهدف البعد‬
                                                       ‫النفسي‪ ،‬والثقافي‪ ،‬والاجتماعي‪ ،‬والذاكراتي للفرد‪،‬‬

                                                          ‫والجماعة‪ ،‬عكس الوقائع التاريخية التي تتميز‬
                                                       ‫بالتشظي‪ ،‬والتبعثر‪ ،‬والتي تأخذ مسا ًرا تسلسليًّا‪،‬‬

                                                           ‫وخضوعها للسلطة الحاكمة والفكرة المهيمنة‪.‬‬
                                                          ‫تعد الهوية السردية الملتقى بين الهوية العينية‬
   52   53   54   55   56   57   58   59   60   61   62