Page 56 - merit 41- may 2022
P. 56

‫العـدد ‪41‬‬  ‫‪54‬‬

                                                    ‫مايو ‪٢٠٢2‬‬

 ‫الزمان الثالث الذي جعله يمتد كجسر بين زمانين‬              ‫يصعب القبض عليها في ظل ارتباطها بالبعد‬
 ‫آخرين‪ .‬ظل هناك شق فاصل أو هوة مفتوحة بين‬             ‫الفلسفي والأدبي والنفسي والتاريخي والزماني‪،‬‬
                                                    ‫حيث يقول بول ريكور «إن الذات تبحث عن هويتها‬
     ‫نوعين من الزمان الظاهراتي في مقابل العادي‬       ‫على مستوى الحياة بأسرها»(‪ ،)2‬فالإشكالية هنا لا‬
 ‫والنفسي‪ ،‬في مقابل الكوني والموضوعي‪ ،‬في مقابل‬       ‫ترتبط بالبحث في هوية الأشياء التي ترتبط بمفهوم‬
‫الخفي‪ ،‬وإن هذه الهوة لا يردمها سوى السرد الذي‬
‫يقدم نو ًعا ثالثًا من الزمان‪ ،‬يمتد كجسر واصل بين‬        ‫الجوهر والنواة التي لا تتغير‪ ،‬أي تظل ثابتة في‬
                                                          ‫ماهيتها‪ ،‬بل يلامس الموضوع هنا هوية الذات‬
    ‫زمانين آخرين وذلك هو الزمان المروي‪ ،‬وفاعل‬        ‫المتغيرة والخفية‪ ،‬والتعرف على وجودها التاريخي‬
    ‫هذا الزمن المروي هو الهوية السردية»(‪ ،)3‬التي‬      ‫والاجتماعي والذاكراتي‪ ،‬عبر فعل السرد‪ ،‬لتصبح‬
    ‫من خلالها حاول بول ريكور فك التعارض بين‬               ‫الهوية أكثر انفتا ًحا بعد انتقالها من المستوى‬
 ‫الزمن الأرسطي الموضوعي‪ ،‬والزمن الأوغسطيني‬            ‫الضيق الذي كان منحص ًرا في الأشياء الثابتة‪ ،‬إلى‬
     ‫النفسي‪ ،‬وقد كان الح ُّل الذي اقترحه ماث ًل في‬     ‫مستوى أكثر انفتا ًحا وتعقي ًدا فيما يتعلق بوجود‬
   ‫الزمان الثالث‪ ،‬هو زمان تمثيلي تمثله الحبكة‪ ،‬أي‬   ‫الإنسان وماهيته الواقعية والمتخيلة‪ ،‬وكيفية تفكيره‪،‬‬
     ‫الهوية السردية‪ ،‬في ارتباطها بالمكونات سالفة‬     ‫والتعامل مع الأشياء‪ ،‬وفي إبداعاته الفنية والأدبية‪،‬‬
                                                         ‫التي يحاول الإنسان من خلال الكتابة والسرد‬
                                         ‫الذكر‪.‬‬      ‫بناء أو إعادة النظر في الهوية المفترضة‪ ،‬أو التي تم‬
       ‫وتتجلى العلاقة بين الهوية والسرد‪ ،‬بوصف‬        ‫طمسها وسلبها (كما تفعله الكتابة النسائية مث ًل)‪.‬‬
       ‫هذا الأخير «حار ًسا للزمان‪ ،‬مادام الزمان لا‬      ‫إلى جانب هذا يتم استحضار مفهوم الشخص‪،‬‬
     ‫يمكن التفكير فيه من دون زمان مروي»(‪ )4‬أي‬             ‫والأنا‪ ،‬والآخر‪ ،‬في ارتباطهما بالبعد الزماني‪،‬‬
    ‫الهوية السردية‪ ،‬وبالتالي تم تصوير الزمان من‬        ‫والوجودي من حيث الكينونة‪ ،‬وفي تحديد الهوية‬
   ‫لدن السرد‪ ،‬حيث أدرك بول ريكور التطابق بين‬         ‫على مستوى الكتابة وسرد معاناة الذات‪ ،‬سعيًا إلى‬
    ‫السرد والزمان في المواجهة التي كانت محتدمة‬
    ‫بين النظرية الأوغسطينية عن الزمان والنظرية‬                           ‫تشكيل هوية واقعية حقيقية‪.‬‬
 ‫الأرسطية عن الحبكة‪ ،‬وبالتالي يتم تصوير الهوية‬           ‫‪ ‬مما يجعلنا نتساءل‪ ،‬ما علاقة الهوية بالسرد؟‬
 ‫بواسطة السرد الذي يظهر أو يبني هوية شيء ما‬          ‫وكيف يساهم هذا الأخير في تشكيل الهوية؟ وعلى‬
   ‫عبر الحكي والقص وشريط الذاكرة‪ ،‬مما يساعد‬            ‫أي مستوى؟ وما هي الأبعاد التي تساهم في هذا‬
                                                        ‫التشكل؟ أيمكن للهوية السردية أن تخلق هوية‬
         ‫الذات على معرفة هويتها وإدراك حقيقتها‪.‬‬        ‫للذات على مستوى التخييل؟ بل أكثر من ذلك في‬
     ‫يرى محمد الداهي «أن السرد هو الذي يمنح‬            ‫الواقع الوجودي‪ ،‬مع الحفاظ على إثبات الذات في‬
 ‫للهوية وجو ًدا ومعنى‪ ،‬ويشخص ملامحها‪ ،‬مضي ًفا‬         ‫مواجهة الآخر المهيمن على وسائل الإنتاج المعرفي‬
  ‫أن السرد يملأ ثغرات الزمنية‪ ،‬ويستعان به أي ًضا‬    ‫والثقافي؟ أ ُيم ِّك ُننا مفهوم الهوية السردية من تجاوز‬
‫لتصحيح ما تعرضت له الهوية والذاكرة من تشويه‬          ‫أزمة هوية المرأة في المجتمع الذكوري؟ وإلى أي حد‬
   ‫وتزييف لبواعث أيديولوجية أو أخلاقية»(‪ ،)5‬مما‬         ‫يمكن الاعتماد على الهوية السردية كبناء معرفي‬
    ‫دفع النسويات إلى أن يجعلوا من السرد وسيلة‬       ‫ونظري في معالجة الإشكالات التي تواجه المرأة على‬
     ‫للتطهير وتصحيح التصورات التي تلف جسد‬            ‫مستوى الكتابة والواقع المعاش؟ ولماذا ربط ريكور‬
      ‫المرأة‪ ،‬وتنقص من قيمتها الفكرية ودورها في‬         ‫بين الهوية والسرد؟ وما هي الصلة بين الهوية‬
  ‫الحياة‪ ،‬خصو ًصا وهي ترى أن المجتمع جعل من‬
    ‫جسدها دلي ًل على وجودها وقيمتها في المجتمع‪،‬‬                   ‫والوعي بالتاريخ والذاكرة والحكي؟‬
 ‫لهذا كانت تعمل المرأة على الاعتناء به‪ ،‬وجعله أكثر‬       ‫قبل الإجابة عن هذه الأسئلة لا بد من تعريف‬
  ‫جاذبية وأناقة في عيون الرجال‪ ،‬بل أكثر من ذلك‬          ‫الهوية السردية‪ ،‬فهذه الأخيرة كما يعرفها بول‬
   ‫تغيير هذا الجسد بما يتلاءم مع معايير الجمال‪،‬‬           ‫ريكور بكونها «تمثل فاعل الزمن المروي‪ ،‬هو‬
    ‫حسب الحقبة الزمنية‪ ،‬والبيئة التي تعيش فيها‪.‬‬
   51   52   53   54   55   56   57   58   59   60   61