Page 31 - ميريت الثقافية رقم (27)- مارس 2021
P. 31

‫من يتتب ْع تجربة سعادة جّي ًدا‪ ،‬يدر ْك أ ّن‬                                            ‫أ ّنهما ُكتبا و ُنشرا في زمن الحرب وأثناء إقامته‬
    ‫الطائفّي َة لم تتر ْك آثاَرها البغيض َة عليه‪،‬‬                                                          ‫في لبنان قبل هجر ِته النهائيّة‪.‬‬
  ‫رغم تو ّفر أسبابها‪ ،‬ولن نعن َي بالقطع أ ّنه‬
‫لم يكتر ْث إليها‪ ،‬لك ّن وعَيه كشاعٍر‪ ،‬واتسا َع‬                                               ‫يقول الشاعر «ناظم السيد”‪“ :‬ملامح نج ُدها‬
‫رؤيِته‪ ،‬ورحاب َة فكِره ونف ِسه ووجدا ِنه أشيا ُء‬                                          ‫لدى سعادة كرائ ٍد في القصيدة اليوميّة ولاسيّما‬
     ‫جعل ْت انحيازا ِته إنسانّي ًة‪ ،‬لا يكتر ُث إلى‬
                                                                                            ‫في كتابين ُكتِبا في الحرب‪ ،‬بلغة الحرب‪ ،‬وتركا‬
   ‫لو ٍن أو دين‪ .‬الطف ُل الذي لعب مع عناصر‬                                                      ‫أث ًرا في جيل الثمانينيات‪ ،‬جيل الحرب كما‬
  ‫الطبيعة‪ ،‬لم يفص ْل ذا َته عن أي آخر يو ًما‪،‬‬
                                                                                           ‫ُيعرف هنا‪ :‬رجل في هواء مستعمل يقعد ويفكر‬
  ‫فلم ير في اختلاف المعت َقد بين الناس أ ّي‬                                                   ‫في الحيوانات ومقعد رجل غادر الباص»(‪.)12‬‬
                                                                                               ‫ذات وديع سعادة تأ ّ َل ْت لتلك الحرب‪ ،‬ومن‬
    ‫سب ٍب لتمايز أو تعارض‪ ،‬أو تناز ٍع‪ ،‬فاقتتال‬                                                ‫كثرة الدماء والجثث التي راحت هباء مقاب َل‬

             ‫بلا قرار”(‪.)14‬‬                                                                ‫صرا ٍع تافه‪ ،‬صرا ٍع يكا ُد يكو ُن لا شيئًا صار ْت‬
                                                                                           ‫رؤي ُة الشاع ِر من فرط اعتياد تلك الجرائم أشبه‬
‫عنوان الن ّص الذي منه هذا المقطع هو «محاولة‬
‫الوصول إلى بيروت من بيروت» والن ّص إهدا ٌء إلى‬                                                                            ‫برؤية باردة‪:‬‬
‫صديقه الشاعر سركون بولص(‪ ،)15‬هذا العنوان‬                                                                                        ‫“لذلك‬
 ‫يثي ُر لدى الكاتب والقارئ ك َّم المعانا ِة التي امتلأ ْت‬
‫بها ذا ُت سعادة وهو يرى تف ّسخ الذات اللبنانيّة في‬                                                                        ‫الرؤيا باردة‬
‫الحرب‪ ،‬وحرمان الجميع من أحبابهم وذويهم‪ ،‬إلى‬                                                                 ‫وينبغي الصراخ بشي ٍء آخر‬
‫ح ِّد أ ّن المسافة والتوقيت صار لهما وحد ٌة معيار ّي ٌة‬
‫جديد ٌة هي (الرصاصة)‪ .‬نعم‪ ،‬زمن الرصاصة‬                                                                                   ‫الأروا ُح تافه ٌة‬
‫وخ ّط سي ِرها‪ ،‬فالمدين ُة التي سكن ْت قل َبه وسكن‬                                           ‫يمكنك أ ْن تثقل أجنح َتها بالأسراب الانتحار ّية‬
‫قل َبها صار ْت متشظيّ ًة مم ّزق ًة بالانفجارات‪ ،‬ولأ ّنه‬
‫غي ُر متوائ ٍم مع ذلك‪ ،‬وغي ُر شري ٍك فيه‪ ،‬فقد صار‬                                                       ‫أو تطلق عليها مصارعى السومو‬
‫فيتدحر ُج‬    ‫وغيرتيدبًاحمرن ُبجو ًذحاتيير َيكلُهسق َطح ّرافي ُسأهعاموقينطقرطد ٍةونلاه‬                                     ‫ونتف ّرج»(‪.)13‬‬
‫قرا َر لها‪.‬‬
‫يستم ُّر صرا ُع ذا ِت سعادة‪ ،‬وتم ُّز ُقها من أثر‬                                           ‫يكاد من فرط دهشته سعادة‪ ،‬وصدمة ذاته أ ْن‬
‫الحرب‪ ،‬تلك الذات التي ُتمثّل (سعادة‪ /‬الآخر‪/‬‬                                               ‫يخل َط الواقع ّي بالفانتازي‪ ،‬وهو يتح ّد ُث عن أحد‬
             ‫لبنان بك ّل ما تعنيه ومن تعنيهم)‬                                              ‫مشاهد الوجود الم ّرة في عبثيّتها فتصبح الرؤيا‬

‫يقول سعادة في قصيدة (فى شارع الكسليك)‪:‬‬                                                                      ‫باردة‪ ،‬ولعلّه قصد (الرؤية)!‬
             ‫“لبنان‪ ،‬لبنان‪ ،‬تظ ُّن أ ّننا لا نرى‬                                        ‫اللاذييمكنصاللربكحابثوالًساجزو ُمتجسّمودا ًءوأتككالّنست‪،‬األمر اؤليار اؤليةحلاملتي‬
             ‫ملاح ٌة دمو ّية‪ .‬سياحة جلود‬
             ‫‪...‬‬                                                                            ‫صارت ضابيّ ُتها ثل ًجا معت ًما‪ ،‬فالنتيج ُة واحدة‪،‬‬
                                                                                          ‫وهي أ ّن الأرواح ما عاد لها قيمة ُتذكر‪ ،‬ما عادت‬
                                                                                          ‫ُتحلّق بحر ّيتها حيّ ًة أو ميت ًة‪ ،‬فكم أثقلتها أسراب‬

                                                                                            ‫الانتحاريين‪ ،‬حتي صار المشه ُد عبثيًّا فوضو ًّيا‬
                                                                                                   ‫كح ْلق ٍة تلت ّف حول مصارعي السومو!‬

                                                                                       ‫تتصاع ُد آلا ُم الذا ِت مع الشعور بالعجز‪ ،‬حين يقول‪:‬‬
                                                                                                                 ‫“أحاول أ ْن أذه َب إليك‬

                                                                                                   ‫وذلك لا يستدعي سوى رحل ٍة بسيطة‬
                                                                                                                        ‫نزهة رصاصة‬

                                                                                                          ‫بين التباريس وشارع الحمراء‬
                                                                                         ‫لك ّن ضفتيك مفصولتان ببح ٍر لام ٍع من المتف ّجرات‬

                                                                                                    ‫وحراس بابك يركلونني بأ ْن أتدحرج‬
                                                                                                                               ‫أتدحرج‬
   26   27   28   29   30   31   32   33   34   35   36