Page 35 - ميريت الثقافية رقم (27)- مارس 2021
P. 35
33 إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
لذلك كان طبيعيًّا أ ْن يتمز َق سعادة مع من تمزقوا: الآخر إلى ذاته.
“ إني محا ٌط بجدرا ٍن تقيني منظ َر الخارج. ربما لشعور سعادة أ ّن الجس َد عمو ًما كان عمي ًل
في زمن الحرب وتو ّر َط فيما لا ترتضيه الضمائر
أخبروني أ َّن نا ًسا هناك ماتوا سح ًل على الطرقات. والقلوب.
ربطوهم بسيارا ٍت وج ّروهم في الشوارع وسط بكاء
نساء وزغاريد أخريات ،ثم رموهم تحت الجسر الغريب في الأمر هنا أ ّن أودنيس في إشارته السابقة،
ذهب إلى أ ّن مهم َة الشاعر ليس ْت مجرد تغيي ٍر على
بعد أ ْن تركوا خيط د ٍم منهم على الإسفلت .عن سبيل المجاز ،بل الشاع ُر ينتج صو ًرا وطاقا ٍت
زهو ٍر بشر ّي ٍة يستطيع ك ُّل العابرين أ ْن يروها .لك ّن لتغيير العالم ماد ًّيا.
فهل الشاعر يستطيع ذلك بالفعل؟
المفجوعين وح َدهم يش ّمون فيها رائح َة الزهور.
أش ّم أحيا ًنا مثل هذه الرائحة .هؤلاء الذين غادروني
من دون أ ْن يطلبوا دمع ًة أو كلم َة وداع .الذين هل يمكن للذات أ ْن تتداخ َل وذوا ِت الآخرين ويصير
انسحبوا بخ ّف ٍة من حياتي ،كأ ّن ورق ًة صغير ًة انتماؤها إليهم أه َّم وأولى من انتمائها إلى نفسها؟
سقط ْت فى الماء»(.)27 لو َتط َّرقنا البح ُث قلي ًل إلى عالم ال ِع ْل ِم سيلف ُت نظ َرنا
كان للذات أ ْن تتحد مع آلام غيرها ،وتتم ّزق في آ ٍن
حقيق ٌة علميّ ٌة مستق ّر ٌة ومتعار ٌف عليها ،ومدهش ٌة
واح ٍد من فرط الألم (وسط بكاء نساء وزغاريد إلى ح ٍّد كبير .ففي علم الكيمياء سنج ُد أ ّن تفاع َل
الهيدروﭼين الذي يشتعل بفرقع ٍة مع الأكسﭼين
أخريات) هذه العبارة هي بيت قصيد الكارثة ،هنا إعطلفىاءالاالناشتر.عاألييأنتّنجاجنزيئمار ِّكت َابلماالءماءك املرذ ّكيٍب
يفسح وديع في ذاته متّس ًعا لك ّل الأبرياء الذين
سحلوهم على الطرقات؛ فقد ُفجع فيهم بالفعل، الذي يساعد
ُيستخدم في
هؤلاء لم تترك حيا ُتهم بصم ًة ،ولم يكن لهم مطل ٌب لها صفا ٌت لا ُتشب ُه في أث ِرها صفا ِت العنصرين
عند موتهم ،ولا حتى أ ّي مطل ٍب بعد موتهم ،فقد اللذين تكون ْت منهما.
غادروا الشاعر فى هدوء -نعم غادروه -وكأ ّنهم وفي علم الفيزياء سنجد أ ّن الما َء والثل َج والبخا َر
ثلاث ُة صو ٍر لعنص ٍر واح ٍد يتك ّون من الأكسﭼين
كانوا مقيمين في ذاته ،ولكن هل هم بموتهم
غادروه! أم أقاموا فيه يشم رائحة زهورهم الذكيّة؟ والهيدروﭼين.
الواقع أ ّن السؤالين ممكنان ،فالراحلون أقاموا وفي علم الكيمياء الفيزيائية سنج ُد أ ّن عنص َر
في ذا ِته التي تتس ُع لك ّل الذوات التي تتعام ُل الكربون في الطبيعة هو نفسه بمج ّرد تغيي ٍر في
تمرختتيلفب ٍةجفيزميائابتيهن،هافإتّنهمايًماظ،ه ُورهبي اصلوفرحةمثلوااثلةجرعانافيصتَ،ر
معها وتتفاعل ،وكما قلنا فلا ذا َت إلا بآخر ،وفي
نفس الوقت؛ فهؤلاء عند رحيلهم من ذاته يكون
حضو ُرهم أكث َر عم ًقا وطغيا ًنا ،إ ّنه حضو ُر المكان ِة،
والماس.
إذن الأم ُر ليس مجرد خيا ِل شعراء ،فالماد ُة
الدكتور به ص ّدر لا ينقطع. الذي الغياب حضو ُر والطبيع ُة والعل ُم الماد ُّي الملموس كلُّها تثب ُت أ ّن
أ ْن نقر َأ ما ُيمكن الإطار وفي هذا تدا ُخ َل العناص ِر في تفاعلات ،أو ظهور عنصر بع ّدة
مصطفى سويف كتا َبه «الأسس النفسيّة للإبداع
الفن ّي في الشعر خاصة» ،فقد ورد فى صفحة 51 صور ،أو ظهوره على هيئة ع ّدة عناصر ،أم ٌر قد
حوار بين سقراط وفيدر: أثبته العل ُم منذ سنوات.
“ سقراط :أفتحس ُب أ ّنك تستطي ُع معرف َة طبيع ِة فهل نثب ُت للماء استجاب َته لتأثي ِر الحرارة أو التبريد
النفس دون أ ْن تعر َف طبيع َة الك ّل؟ فيصير ثل ًجا أو بخا ًرا ،وننفي أث َر الغرب ِة أو الموت أو
فيدر :لقد قال هبوقراط إ ّنه حتى طبيعة الجسد الحروب على الإنسان ،حتي تصبح أعضاؤه ذاتها
لا يمك ُن أ ْن ُتفهم إلا كك ّل. كأ ّنها ليست أعضاءه .أو ننفي أث َر رحيل الأحباب
سقراط :نعم يا صديقى ،وبالح ّق نطق -في ظ ّل عجز الذات عن حمايتهم -على الذات،
(فيدر)»(.)28 فتتماهى ذواتهم مع ذات الشاعر؟
إذن الإنسا ُن جس ًدا ونف ًسا ليس مخلو ًقا ُيمكن ...