Page 30 - ميريت الثقافية رقم (27)- مارس 2021
P. 30

‫العـدد ‪27‬‬  ‫‪28‬‬

                                                                ‫مارس ‪٢٠٢1‬‬

  ‫المذيع ِة ينقل أسما َء قتلى وجرحى‪ .‬إ ّنهم يحصدون‬                 ‫ك ّل هذا في لحظ ٍة يصب ُح أشلا َء محترق ًة تصح ُبها‬
       ‫بع َضهم في الشمال‪ ،‬ويحصدون بع َضهم في‬                      ‫قهقهات! نعم قهقهات‪ ،‬لكنّها يا ترى قهقها ُت من؟‬
          ‫الجنوب‪ ،‬ويحصدون بع َضهم في الجبال‪،‬‬
                                                                     ‫أظنّها قهقها ِت الخون ِة‪ ،‬كالعميل المنتفع الوحيد‬
 ‫ويحصدون بع َضهم في المدن‪ .‬قبل أيا ٍم كانوا رفا ًقا‬                 ‫بانفجار الذات اللبنانيّة الواحدة‪ ،‬الذي استش ّف‬
‫زاروا بع َضهم بع ًضا وشربوا القهو َة وتواعدوا للقاء‬                ‫الشاع ُر وجو َده في مطلع الن ّص وحاول أ ْن يجده‪.‬‬

   ‫الأحد المقبل‪ ،‬وفجأ ًة يتلاقون مد ّججين بالسلاح‪.‬‬                     ‫وكأ ّن ذات سعادة التي وعت اللبنانيين جيّ ًدا‬
  ‫يتقابلون أعدا ًء وجثثًا‪ .‬المذيع ُة تنقل أسما َء جثثِهم‪،‬‬         ‫و َخ َب َر ْت ُهم‪ ،‬وعايش ْتهم في شبطين وغيرها‪ ،‬تعلم أ ّن‬

                              ‫و ُتنهي بأغنية»(‪.)11‬‬                           ‫تلك الدمو ّية ليس ْت طبيع َة هذه الذات‪.‬‬
    ‫نتص ّو ُر أ ّنه لا يوجد مقط ٌع كاش ٌف أكثر من ذلك‬           ‫هذا الن ُّص ربما يجعل القارئ في القراءة الأولى أمام‬
  ‫عن حسرة وديع على تم ّز ِق الإنسا ِن اللبنان ّي‪ -‬أو‬            ‫أكثر من ذا ٍت‪ :‬ذا ِت الشاعر‪ ،‬ذا ِت الآخر‪ ،‬وهذا الآخر‬

                                ‫الإنسان عمو ًما‪.‬‬                  ‫ينقس ُم إلى عوا ٍّم مدنيين‪ ،‬جنو ٍد‪ ،‬عملا َء‪ ،‬لك ّن لحظة‬
   ‫البع ُض جز ٌء من الك ّل‪ ،‬فانظر معى إلى استخدا ِمه‬            ‫المكاشفة في الن ّص‪ ،‬لحظة الانفجار‪ ،‬تكشف أ ّننا أمام‬
                                                                ‫ذا ٍت واحدة هي الذات اللبنانيّة وإن تن ّوع ْت تجلّيّا ُتها‪.‬‬
     ‫لمفردة «بعضهم» وتعبير «بعضهم بع ًضا»‪ .‬إ ّن‬                  ‫«لقد مثّ َل ْت الحر ُب واق ًعا مفز ًعا لوديع سعادة‪ ،‬ولم‬
    ‫سعادة يتم ّز ُق معهم في ذات التوقيت‪ ،‬حتي وإن‬
 ‫اختلفت الطوائف والأيديولوﭼيات كإشارته الذكيّة‬                    ‫يتض ْح من شعره الذي أنتجه إ ّبان الحرب الأهليّة‬
     ‫شما ًل وجنو ًبا‪ ،‬والجبال‪ ،‬والمدن إشار ًة منه إلى‬             ‫اللبنان ٌية أو بعدها‪ ،‬أ ّنه تبنّى موق ًفا سياسيًّا ينحاز‬
‫أطراف الصراع المارونيّة وال ُّسنَّة والشيعة والدروز‪،‬‬
                                                                     ‫إلى فصي ٍل ما من الفصائل المتناحرة دون آخر‪،‬‬
     ‫وكأ ّنه يأبى بنف ِسه أ ْن تتو ّرط شعر ّي ُته في ذكر‬            ‫بل بدا انحيا ُزه واض ًحا إلى الإنسان وحسب‪ ،‬إذ‬
 ‫أسماء الطوائف المتناحرة‪ ،‬أولئك الذين كانوا رفا ًقا‬               ‫تملّك وديع ما يتملّك أ ّي إنسا ٍن من الفزع ج ّراء ما‬
                                                                  ‫يمكن أ ْن ُتخلّفه الحر ُب من خرا ٍب وتدمي ٍر وتقتي ٍل‬
    ‫حتى الأمس‪ ،‬وبينهم عه ُد الحياة والسلام‪ ،‬فإذا‬                    ‫وتهجير‪ ،‬وقد عاين وديع ك ّل هذا وشقى به‪ ،‬لا‬
  ‫بهم يتح ّولون من أصدقا َء تجم ُعهم رحاب ُة الأر ِض‬              ‫سيّما أ ّن الحرب اللبنانيّة كانت فى جلّها حر ًبا بين‬
  ‫وأحلا ُم الحيا ِة‪ ،‬إلى أعدا َء‪ ،‬ومشاري ِع جث ٍث‪ ،‬ويقينًا‬
                                                                        ‫أبناء الجماعة الواحدة والوطن الواحد»(‪.)10‬‬
   ‫هناك من لا يبالي بالخسائر الفادحة‪ ،‬يقينًا هناك‬                ‫ذات وديع التي تنحا ُز إلى الإنسان لم يتمز ْق وع ُيها‬
‫عملا ُء وحمقى وإعلا ٌم ُم َل َّو ٌث يحتفي ويغني ويتو ّهم‬
‫أ ّن هناك منتصرين ومنهزمين‪ ،‬ولكن وح َد ُه الشاع ُر‬                 ‫الذي حسم موق َفه من تلك الحرب كسائر مواقفه‬
                                                                    ‫في الوجود وهو الانحياز إلى الإنسان بعي ًدا عن‬
   ‫المنحا ُز للإنسان الذي يعي ببصيرته أ ّن الحصا َد‬                                         ‫التصنيفات البغيضة‪.‬‬
                   ‫للأسف ليس إلا أعدا ًدا وجثثًا‪.‬‬                   ‫لكن من المؤ َّكد أ ّن الذي تم ّزق هو وجدا ُن وديع‬

‫هنا سنج ُد بالفعل أ ّن مفهوم الذات يتّس ُع لدى وديع‬              ‫من ج ّراء تلك المأساة‪ ،‬لذلك يتضح موق ُفه أكثر من‬
 ‫ليشم َل الأطرا َف المتنازعة‪ ،‬ليشم َل الآخر أ ًّيا ما كان‬           ‫تلك الحرب‪ ،‬ويتضح الفار ُق بين وعيه المتماس ِك‬
                                                                      ‫ووجدا ِنه المتم ّز ِق حين نطال ُع المقط َع الآتي من‬
   ‫تو ّج ُهه‪ ،‬حتى لكأ ّن سعادة يريد أ ْن ُي َنبِّ َه الإنسا َن‬      ‫أحد نصوص ديوانه «بسبب غيمة على الأرجح»‬
  ‫إلى أ ّن إنسانيّ َته سابق ٌة على ك ّل مكتسبا ِته‪ ،‬لذلك لم‬          ‫والصادر كما قلنا من قبل ‪ 1992‬في أستراليا‪،‬‬

    ‫يكتر ْث إلى نتيجة الحرب مع أ ّي طر ٍف لأ ّن لديه‬             ‫لك ّن المسافة الزمنيّة بينه وبين سابقه‪ ،‬وهو ديوان‬
 ‫خاس ًرا قريبًا في الإدراك هو لبنان‪ ،‬وخاس ًرا يحتاج‬                ‫«مقعد رجل غادر الباص» ‪ 1987‬خمس سنوات‪،‬‬
                                                                  ‫مما يجعلنا نذه ُب إلى أ َّن المقطع القادم سيكون قد‬
                        ‫تأوي ًل أعم َق هو الإنسان‪.‬‬                ‫ُكتب غالبًا في الفترة من ‪ 87‬أو ‪ 88‬أي في أخريات‬
     ‫يتج ّل أث ُر هذه الحر ِب في شعر سعادة في أكثر‬                                               ‫الحرب الأهليّة‪.‬‬
    ‫من موض ٍع‪ ،‬وخا ّص ًة في ديوانيه «رجل في هواء‬                    ‫يقول وديع فى قصيدة (لحظات ميتة)‪“ :‬صو ُت‬

      ‫مستعمل يقعد ويفكر في الحيوانات» الصادر‬
‫‪ ،1985‬والآخر هو ديوان «مقعد رجل غادر الباص»‬
 ‫الصادر ‪ ،1987‬وكما يبدو من تاريخي صدوريهما‬
   25   26   27   28   29   30   31   32   33   34   35