Page 34 - ميريت الثقافية رقم (27)- مارس 2021
P. 34

‫العـدد ‪27‬‬                                                         ‫‪32‬‬

                                                               ‫مارس ‪٢٠٢1‬‬

     ‫“عرف ُت في حياتى نا ًسا رحلوا وبقي ْت عيو ُنهم‬               ‫تخليص الإنسان من خطاياه‪ ،‬كما ذكر الكتا ُب‬
    ‫سنوا ٍت جالس ًة بهدوء في آخر مكا ٍن نظروا إليه‪.‬‬                    ‫المق ّد ُس في ع ّدة مواض َع عند المسيحيين‪.‬‬
‫عرف ُت نا ًسا تعاملوا مع أعضا ِئهم مث َل جمهر ٍة التقت‬
  ‫مصادف ًة في احتفال‪ .‬ثم ذهب ك ّل واح ٍد في طريق‪.‬‬              ‫فكر ُة الشقاء والألم تلك‪ ،‬ليست ببعيد ٍة عن المعتقد‬
‫على الأدراج وفي الشوارع والساحات تتو ّزع أعضاء‬                 ‫الإسلام ّي‪ ،‬بل هي أسا ٌس مصاح ٌب لخلق الإنسان‬
   ‫كثيرة‪ ،‬كانت تجلس يو ًما مع أصحابها ثم كبرت‬                                  ‫«لقد خلقنا الإنسان في كبد”(‪.)24‬‬
    ‫وغادرتهم‪ .‬رأيت أعضا َء ضائع ًة وأعضا َء غافي ًة‬            ‫بالألم عرف وديع التاريخ‪ ،‬أو لنقل إ ّن ُه عرف ذاته‪،‬‬
    ‫وأعضا َء تبتسم‪ .‬بعضها كأنه ُولِد للت ّو وبعضها‬                                                    ‫عرف الآخر‪.‬‬
     ‫يموت‪ .‬التقيت عيو ًنا تسهر من دون أصحابها‪،‬‬
                                                                                                      ‫يقول في قصيدة «وجهه”‪:‬‬
      ‫وأرج ًل تمشى وح َدها على الطرقات‪ ،‬وشفا ًها‬
  ‫تتكلم وح َدها مع العابرين‪ .‬التقيت كلما ٍت وأنفا ًسا‬                                                 ‫“رسم وجهه ورآه‬
‫ونظرا ٍت غادرت أصحابها وتحولت كائنا ٍت جديدة‪.‬‬
                                                                                                            ‫يشبه وج ًها آخر‬
       ‫إننى مع هذه الكائنات جال ٌس الآن مع أشيا َء‬                                                    ‫أضاف خطو ًطا وملام َح‬
     ‫انسحب ْت من ماضيها وبدأ ْت حياتها الخا ّصة‪،‬‬
    ‫وأشعر كأ ّن أعضائي على و ْشك الانسحاب منّي‬                                                               ‫أضاف تع ّرجا ٍت‬
  ‫لتبدأ هي أي ًضا حياتها‪ .‬في أية حال‪ ،‬لم أنظر يو ًما‬                                                                ‫ساحا ٍت‬
‫إلى أعضائي كشي ٍء لصي ٍق بي بل كانت دائ ًما تتمتع‬                                                                                ‫طرقا ٍت‬
                                                                                                      ‫‪ ..‬م ّزق الورق َة‬
                                ‫باستقلالها”(‪.)26‬‬
 ‫هذا المقطع جز ٌء من ن ّص «لحظات ميتة» من ديوان‬                                                       ‫واختفى”(‪.)25‬‬

     ‫«بسبب غيمة على الأرجح» الصادر ‪ 1992‬كما‬                    ‫وجه الشاعر يشبه وجه الآخر‪ ،‬وكلاهما يشبهان‬
 ‫ذكر البح ُث من قبل‪ ،‬وهو أول إصدارات وديع بعد‬                  ‫وجه الأرض وجه الوطن‪ ،‬تمزي ُق تلك الصور ِة كا ٍف‬
                                                                                                      ‫لاختفاء الشاعر‪.‬‬
                          ‫هجرته النهائية ‪.1988‬‬
  ‫في هذا المقطع سنجد الذا َت الشاعر َة مسر ًحا غنيًّا‬          ‫يبيمكننذات ِتصالُّو ُرش ُهاعن ِر ًّصا‬  ‫رغم قصره‪ ،‬إلا أنه‬          ‫هذا الن ّص‬
    ‫بالخيال فيح ُد ُث تداخ ٌل كبي ٌر بين الذات والآخر‪،‬‬                                                ‫تأكي ِد فكر ِة التو ّح ِد‬  ‫مركز ًّيا في‬
                                                                                                      ‫والآخر والوطن‪.‬‬
     ‫الح ّي والراحل‪ ،‬بل ترك ْت ند ًبا غائر ًة في روحه‬          ‫للراحلين منزل ٌة خا ّص ٌة في وجدان سعادة وضميره‪،‬‬
                             ‫وضميره لا تفارقه‪.‬‬                 ‫هذه المنزل ُة ليس مبع ُثها حني َن الذات فحسب‪ ،‬وإنما‬
                                                               ‫هذه المنزل ُة أسهم ْت في تش ُّك ِل رؤية الشاعر‪ ،‬وتكوين‬
    ‫فالراحلون في هذا المقطع تركوا المكان لكنّهم لم‬                 ‫الذات نفسها‪ ،‬بمعنى أ ّن الذا َت الإنسانيّ َة ليس ْت‬
‫يتزحزحوا عن مكانتِهم‪ ،‬هم يقيمون في ذا ِت الشاعر‬                ‫طلس ًما‪ ،‬وليست شيئًا مبهم التفاصيل والتكوين‪،‬‬
                                                               ‫ومن أه ِّم مك ّونا ِت أ ّي ذا ٍت‪ ،‬علاق ُتها بالآخر‪،‬‬
     ‫ممتزجين معها‪ ،‬يكاد يتع ّرف أعضاءهم في كل‬                  ‫وامتزا ُجها به إلى درج ٍة من التماهي تجعل لا‬
‫شي ٍء حوله‪ ،‬يكاد يلتقي عيونهم‪ ،‬نظراتهم‪ ،‬كلماتهم‪،‬‬               ‫فار َق تقريبًا بين الذات الإنسانيّة والذات الشاعرة؛‬
‫كأ ٌنهم تح ّولوا من صور ٍة إلى صورة‪ ،‬لم يكن رحي ًل‬             ‫فحسب‪ ،‬بل هو‬      ‫فاشلاعش ٌارع ُطرولايلسحياش ِتاهع ًراسوواقًء َتكتالبك‪،‬تاأبمِة‬
‫تقليد ًّيا عن الأرض‪ ،‬فهم يظهرون في ذاته‪ ،‬يظهرون‬                 ‫لا‪ ،‬فهو شاع ٌر‬                        ‫حتى لو تو ّقف عن الكتابة‪.‬‬

                        ‫في صورة كائنا ٍت جديدة‪.‬‬                   ‫والقصيدة التي هي جز ٌء أصي ٌل من ذات الشاعر‬
  ‫هذه الكائنات كأنها تح ّررت من ماضيها برحيلها‪،‬‬                ‫ليست هي تلك المساحة التي نجح القلم في الإمساك‬
   ‫ثم يصدم سعاد ُة وعينا حين يشي ُر إلى فصا ٍم ما‬
                                                               ‫بها فوق ورقة فحسب‪ ،‬فالقصيد ُة قبل الورق‬
                             ‫بين ذاته وأعضائه!‬                 ‫والقلم‪ ،‬وبعدهما‪ ،‬وما تم كتاب ُته ليس إلا بع ًضا من‬
       ‫فبعدما قادنا المقط ُع الساب ُق إلى تداخ ِل ذوات‬                               ‫ك ٍّل‪ ،‬قب ًسا من وه ٍج ممتد‪.‬‬
     ‫الآخرين وذاته‪ ،‬يباغ ُتنا سعادة بأ ّن انتما َءه إلى‬                                          ‫يقول وديع‪:‬‬
‫أعضا ِئه أق ُّل بكثي ٍر من انتما ِء ذا ِته إلى الآخر‪ ،‬وانتماء‬
   29   30   31   32   33   34   35   36   37   38   39