Page 34 - ميريت الثقافية- عدد رقم 26 فبراير 2021
P. 34

‫العـدد ‪26‬‬    ‫‪32‬‬

                                                        ‫فبراير ‪٢٠٢1‬‬

      ‫واللغات واللغيّات ووجهات النّظر‪ .‬وهو كذلك‬          ‫ابتللت اشتعل ُت‪ ،‬فأوغل ُت حتى ضلل ُت قلت د ّثروني‬
       ‫تعبير عن الاغتراب والشعور بالفقد واليأس‬               ‫د ّثروني»‪« ،‬كلّما ر ّويتني أظميتني»‪َ « ،‬أ َب ٌد مال ٌح‪،‬‬
    ‫والتش ّظي‪ ،‬والخوف من الموت والتغيير الذي لا‬
 ‫مف ّر منه والعجز عن التعبير عن الح ّب‪ ،‬يرعى حول‬           ‫وارتوائي خزعبل ٌة مورقة»‪« ،‬أ ّيتها الشا ّقة الشهيّة‬
  ‫حمى اللحظات الملتهبة لكنّه لا يقع في المباشرة أو‬         ‫بين النساء‪ ،‬لست جي ًشا بألوي ٍة»‪« ،‬ظامئ‪ ،‬وكيف‬

                                       ‫الابتذال‪.‬‬                                     ‫أرتوي من طوفان»‪.‬‬
     ‫في ك ّل موضع من الديوانين «انقلاب على نظام‬               ‫احتشاد الصور في هذا الموضع وغيره تجربة‬
 ‫الإحالة إلى الواقع» (الخ ّراط‪ .)1999 ،‬وفيهما شعر‬         ‫مدنيّة لا ريب‪ ،‬لاحظ ذلك جورج زيميل ‪Simmel‬‬
    ‫يع ّز على التأطير في نسق واحد معلوم سل ًفا‪ ،‬بل‬         ‫(‪ :)1903‬صور من ك ّل ا ّتجاه‪ ،‬تفقد لفرط كثرتها‬
  ‫تن ّقل بين وسائل التعبير وأشكاله وبين نصوص‬               ‫الخصوصيّة والتميّز‪ ،‬وتترك المتابع في حيرة من‬
‫الآخرين يتقاطع معها وينتهكها أو يعيد كتابتها بما‬            ‫أمره‪ ،‬فلا يجد من مهرب سوى الاحتماء بذاته‪،‬‬
    ‫يوافق السياق الراهن‪ .‬يستطيع المتل ّقي أن يضع‬          ‫وا ّتخاذ موقف الحياد وإبعاد مشاعره عن المشهد‪.‬‬
 ‫يده على أحداث أو إشارات إلى أشخاص وأماكن في‬                ‫في قصيدة تقليد ّية يكاد القارئ يحصي الصور‬
  ‫الواقع‪ ،‬خصو ًصا ذلك المشهد الذي يبدأ به (أرعى‬              ‫عد ًدا ويجد في ك ّل منها خصوصية تميزها عن‬
 ‫الشياه) ويحيل بمواربة إلى أحداث يناير في مصر‪،‬‬          ‫غيرها‪ ،‬أ ّما في قصيدة رفعت س ّلم فطوفان الصور‬
   ‫وقد أفضى بسبب الخيانات وراكبي الأمواج إلى‬                ‫يجتاح حواس القارئ‪ ،‬فيبقى على الحياد‪ ،‬حائ ًرا‬
   ‫«أوهام مبقورة» و»أحلام مغدورة»‪ ،‬لك ّن ال ّشاعر‬       ‫بينها‪ .‬هكذا القرية‪ ،‬قبل أن تغتالها يد المدنيّة‪ ،‬وهكذا‬
                                                           ‫المدينة‪ ،‬وهكذا قصيدة تقليد ّية ملامحها واضحة‪،‬‬
        ‫سرعان ما يبتعد بك ّل هذا وراء غلالات من‬            ‫تذعن للتفسير «السريع» «الواثق»‪ ،‬بل توشك أن‬
         ‫الغموض وطبقات من الأساطير والرموز‪.‬‬
      ‫في (إلى النّهار الماضي)‪ ،‬من العنوان إلى (منيا‬                      ‫ُتسلم نفسها للقارئ من بدايتها‪.‬‬
     ‫القمح ‪ ،)1951‬مكان وزمان ميلاد الشاعر‪ ،‬إلى‬              ‫في مدن رفعت س ّلم قد يقع القارئ على مناطق‬
     ‫«منية شبين»‪ ،‬حيث البيوت «من طين وطيبة»‪،‬‬
 ‫وحيث البشر «لهم غصون وأوراق خضراء» (منية‬                     ‫قرو ّية ‪-‬وزن وقافية وصور واضحة بسيطة‬
    ‫شبين)‪ ،‬وحيث انتقل الشاعر وأسرته بعد أربع‬                  ‫ومعان قريبة وإحالات لا تصعب على الاقتفاء‬
     ‫سنوات‪ ،‬إلى آمال الطفولة والصبا ومخاوفهما‬                 ‫ومح ّسنات بديعية‪ ،‬كما ورد فيما سبق‪ -‬لك ّن‬
 ‫وأوهامهما وعفاريتهما «الليليّة»‪ ،‬إلى الأم «الخيمة»‬     ‫المشهد الكبير في ك ّل قصيدة مشهد مدينة‪ ،‬مزدحمة‪،‬‬
‫والأب المارد‪ ،‬وك ّل رمية منه «رحيق مسكر ودهشة‬               ‫صاخبة‪ ،‬مراوغة‪ .‬وهي هنا كما لو كانت تشهد‬
 ‫مر َت َجلة»‪ ،‬إلى الأسئلة البريئة‪« :‬ما الذي تعنيه كلمة‬
     ‫حرب؟ من أين يجيء الأب؟» إلى «المارد يو ّزع‬                                  ‫مظاهرة عارمة (ص‪:)5‬‬
‫الكيروسين»‪ ،‬قبل دخول الكهرباء‪ ،‬و»نا ٌس يتكلّمون‬            ‫مفارقة وتعارض بين غراب ناعق‪ ،‬يرفرف فوق‬
   ‫في صندو ِق خش ٍب وصفي ٍح صغير» (منيا القمح‬           ‫الأطلال‪ ،‬وحدث يبدو كما لو كان عي ًدا أو مهرجا ًنا‪،‬‬
 ‫‪ ،)1951‬قبل طغيان الإعلام المرئي‪ ،‬هذه سير ُة ذا ِت‬      ‫وبين الغ ّل والأحلام وهما يسبحان في أنهار ال ّدم في‬
                                                        ‫الشوارع‪ ،‬وبين ال ّركام والخرائب‪ ،‬و»زاهرة»‪ ،‬وبين‬
                       ‫شاعر‪ ،‬سير ُة ذا ٍت شاعرة‪.‬‬
 ‫يرى الصكر (‪ )2004‬أ ّن قد ًرا كبي ًرا من الغموض‬                                    ‫«الحرائق»‪ ،‬و»باهرة»‪.‬‬
                                                         ‫بسبيل التكرار والاستطراد‪ ،‬ينضاف إلى هذا الملمح‬
       ‫يكمن في المسافة التي تفصل «القصيدة» عن‬
     ‫«الحدث»‪ ،‬وكيفية تعبيرها عنه‪ ،‬فالحدث‪ ،‬وفق‬                 ‫في شعر رفعت س ّلم كما يظهر في الديوانين‬
  ‫تحليله وتص ّرفه في مقولة لإيجلتون هو «الوحش‬           ‫موضع الإشارة التجريب في الشكل‪ ،‬وتعدد وسائل‬
‫الذي يريد التهام النص‪ ،‬لك ّن النّ ّص يخاتله‪ ،‬ويؤ ّطره‬
    ‫داخل سياقه‪ ،‬وضروراته”‪ .‬لقد صار ضرور ًّيا‬                 ‫التعبير وشفراته‪ ،‬واجتماع الرفيع إلى البسيط‬
                                                         ‫المألوف‪ ،‬والأسطوري مع اليومي‪ ،‬وتسليط الضوء‬
                                                         ‫على المسكوت عنه وعلى دهاليز العقل الباطن‪ .‬وهو‬

                                                            ‫شعر ذهني يستلزم التأ ّمل والوعي بالنصوص‬
                                                            ‫التي يتقاطع معها‪ .‬وهو ساحة لتعدد الأصوات‬
   29   30   31   32   33   34   35   36   37   38   39