Page 29 - ميريت الثقافية- عدد رقم 26 فبراير 2021
P. 29

‫‪27‬‬               ‫إبداع ومبدعون‬

                 ‫رؤى نقدية‬

                                                                                                     ‫والانعتاق من قيود القوى‬

                                                                                                     ‫الاجتماعية المهيمنة‪ ،‬التي‬

                                                                                                     ‫تح ّرض على الابتذال والارتكاس‬
                                                                                                     ‫وال ّركاكة‪ ،‬ومن سطوة التاريخ‬
                                                                                                     ‫والتراث‪ ،‬وفي الرضوخ لهما من‬

                                                                                                     ‫غير وعي تحريض على التكرار‬

                                                                                                     ‫والاجترار‪ ،‬ومن الضغوط‬

                                                                                                     ‫الخارجيّة‪ ،‬ومن التقنيات‬
                                                                                                     ‫المستحدثة التي قد تنتهي إلى‬
                                                                                                     ‫السأم‪ ،‬وقلّة الاكتراث‪ ،‬وكسل‬

                                                                                                     ‫العقل وال ّروح‪ .‬تلك الحالة التي‬
                                                                                                     ‫وصفها عالم الاجتماع الألماني‬

                                                                                                     ‫جورج زيمل ‪)1903( Simmel‬‬

                                                                                                     ‫بعبارة ‪.blasé attitude‬‬

                                                                                                     ‫تلك الحالة التي تجتهد القصيدة‬

‫أرشيبولد ماكليش‬  ‫حاتم الصكر‬                                                               ‫جورج زيمل‬  ‫في الخروج منها في ديوان‬

                                                                                                     ‫(إلى النهار الماضي) بالتغريب‬
‫تارة‪ ،‬وبالتقريب تارة‪ ،‬وبالتجريب والصدمة تارات رسول الله صلى الله عليه وسلم‪َ « :‬ما َب َع َث ال َّل َنبِيًّا‬
‫إِ ّل َر َعى ا ْل َغ َن َم‪َ ،‬ف َقال َأ ْصحا ُبه‪َ :‬و َأ ْن َت؟ َقا َل‪َ :‬ن َع ْم‪ُ ،‬ك ْن ُت‬  ‫أخرى‪ ،‬وبمفارقة المجت ّر والمألوف والسائد (مزيد‪،‬‬
                 ‫َأ ْر َعا َها َعلى َقرا ِري َط ل َأ ْه ِل َم َّك َة»‪( .‬رواه البخاري)‬     ‫‪ .)2018‬تجتهد قصائد س ّلم في إعادة خلق الوعي‬
                                                                                          ‫الشعري والذائقة الشعرية‪ ،‬وفي تقريب المتل ّقي من‬
‫لك ّن الأرض التي رعى عليها الأنبياء الغنم تتغيّر في‬
                 ‫عنوان الديوان فتصير «ماء»‪ .‬وهكذا يجتمع النبي‬                                        ‫جوهر الشعر‪ ،‬لا بهرجه الإيقاعي‪ ،‬ولا زخارفه‬
                                                                                          ‫البلاغيّة‪ ،‬تريد أن تغرق المتل ّقي في تفاصيلها ليرى‬
‫إلى الصوف ّي صاحب الكرامات‪ .‬وهكذا يفلت العنوان‬                                            ‫كيف تتش ّكل وكيف ُتنتج دلالاتها‪ ،‬ويعاين مكابدة‬

   ‫من صخب المدينة وما ّديتها وزحامها‪ ،‬إلى بداوة‬                                              ‫كتابتها‪ ،‬وكلّما أوغلت في محاولاتها‪ ،‬أوغلت في‬
‫الرعي وصفاء الإشراقات الصوفيّة‪ .‬مغامرة دلاليّة‬                                               ‫بعدها عن أفق التل ّقي التقليدي الذي يتأ ّبى على‬
                                                                                              ‫التغيير‪ .‬ويصير التجريب وابتعاد الشاعر من‬
  ‫تؤطرها تقفية ظاهرة ‪»-‬الشياه» و»المياه»‪ -‬تلفت‬                                             ‫المألوف أكثر فداحة وجرأة في (أرعى الشياه على‬
 ‫النّظر إلى ال ّدالّين غير البشريين‪ ،‬وإلى العلاقة بين‬
  ‫النبوءة والإشراق‪ .‬دا ّلن تحتشد فيهما الدلالات‬                                                                                  ‫المياه)‪.‬‬

   ‫والإيحاءات البشر ّية والأسطور ّية‪ ،‬في الماء غرق‬
‫ونجاة‪ ،‬وموت وحياة‪ ،‬وأوهام‪ .‬وفي (سفر التكوين)‬
‫«تطفو روح الله على سطح الماء»‪ ،‬وفي القرآن الكريم‬                                                     ‫يرعى الشياه على المياه‬

‫«و َكا َن َع ْر ُش ُه َع َل ا ْ َلا ِء» (هود‪ :‬من الآية ‪ .)7‬قصص‬                            ‫يتب ّدى السعي إلى الخصوصيّة والفرادة من الوهلة‬
 ‫الماء ‪-‬خصو ًصا مع الأنبياء‪ -‬قديمة رائجة لا تفقد‬                                          ‫الأولى من عنوان ديوان رفعت س ّلم (أرعى الشياه‬
‫على المياه)‪ 2018 ،‬في ضمير المتكلّم المستتر بعد فعل زخمها الدلالي بمرور الزمن‪ .‬كذلك الشياه‪ .‬صورة‬
 ‫بني إسرائيل مشردين لا راعي لهم مشهورة في‬
‫الكتاب المق ّدس‪ .‬لا حصر لما في الدالّين من إيحاءات‬                                           ‫مضارع –»أرعى»‪ -‬يفيد استمرار السعي وكذلك‬
 ‫وترميز بما ير ّشح العنوان وحده لقراءة أسلوبيّة‬                                           ‫آنيّته‪ .‬وال ّرعي مهنة أنبياء‪ .‬كان موسى عليه السلام‬
                                                                                          ‫راعيًا عند شعيب عليه السلام لعشر سنوات‪ ،‬وعمل‬
                                ‫أسطور ّية‪.‬‬                                                ‫النبي صلى الله عليه وسلم في صغره بال ّرعي‪ :‬قال‬
   24   25   26   27   28   29   30   31   32   33   34