Page 32 - ميريت الثقافية- عدد رقم 26 فبراير 2021
P. 32
العـدد 26 30
فبراير ٢٠٢1
لا حصر لما في الديوان من طباقات وتعارضات، الغربان خراب وموت ،لكنّها تحمل نبوءات
ومن انحرافات عن المألوف والسائد .في لافتة ورسالات .وهي تشير إلى العقل الباطن وإلى فناء
صغيرة في موضع منه (ص )126نقرأ« :وقال لي المادة وموت الجسد على طريق انعتاق الروح.
التمساح الحنون :لم يعد لي سواك ،فماذا ترى؟» والعرب تتشاءم بالغراب ،ولذا اشتقوا من اسمه
ينجم الغموض في «ماذا ترى» من صفة «الحنون» «الغربة» و»الاغتراب» و»الغريب» (الدميري :حياة
التي تنعت التمساح ،فلو كان تمسا ًحا لا يعرف الحيوان الكبرى ،ص .)128والحيّة ق ّوة باطنة،
الحنان لاقتصرت دلالة «لم يعد لي سواك» على «لم ودافع غريزي ،وطاقة تج ّدد وتح ّول وتناسل .في
يعد لي سواك ألتهمه» .في مشهد قريب (ص)10 التوائها على نفسها حياة وموت ،حكمة وشبق ،س ّم
«قال لي الثعبان أنا أخوك من الرضاع ،والتهمني». وترياق .هذا غيض من فيض ما في قصائد الديوان
في وسع القارئ أن ُيسقط الرمز على الواقع ،وفي من رموز ودوال وما فيها من أساطير تنزل من
وسع الرمز أن يبقى ح ًّرا طلي ًقا يصدق على غير ذلك
من سياقات تجتمع فيها الخيانة والقتل إلى زعم عليائها وتتخلل المشاهد والصور.
قصيدة -لافتة أخرى في أسفل صفحة أخرى من
الأخوة وال ُقربى.
تظ ّل المفردات تغادر بيئاتها الدلاليّة إلى بيئات الديوان (ص )131تشتمل سج ًعا وتشبيها في
جديدة غير مألوفة .وتظ ّل اللغة تمارس غواياتها «كس ّكين من ياسمين» ،وفعلين ماديين يأتيهما
في اللعب ولو بنقل نقطة من موضعها إلى موضع المخاطب ،هما «تدخلني» و»تدحوني» ،وتكون
آخر ،كما في «ال ّرحيم» و»الرجيم» وشتّان بينهما. فيهما المتكلّمة مفعول بها ،وفعلي صيرورة يتصلان
«قل ِت :أنت قاتلي ال ّرحيم .قل ُت :أنا القتيل الرجيم». بالمتكلّمة في النّ ّص ويثمرهما الفعل الأول الذي يأتيه
ولك ّن اللغة يكثر أن تعلن عجزها عن التعبير في ظ ّل المخاطب هما «أعبق» و»أصبح» ،وفيهما استعارتان
الارتباك واليأس والخراب« :وقل ُت :كلّما اتسعت تصير بهما المتكلّمة وردة تعبق أري ًجا وشب ًقا،
الرؤية ،ماتت العبارة» (ص ،)124تنويع على ث ّم امرأة من عجين ،وقد لانت ور ّقت وانبسطت
النّفري. وا ّتسعت.
هذا فعل الس ّكين ،لأ ّنها على ح ّدتها سكين من
بصيرة وأرض كاسدة «ياسمين» ،وهذا بعض ما يفعل الشبق ،وبعض
ما يفعل مطر في أرض يابسة .وهذا موضع من
ينغلق الديوان على مشاهد خانقة .لا يستطيع المواضع تصمت فيه ذات ال ّشاعر لتترك الكلام
ال ّشاعر النسيان »-فمتى ينبت النسيان في قلبي لذات أنثى وهي تستسلم للدخول والدحو ،ولمشيئة
فيورق سكينة خضراء يانعة؟» -ومن يذكر إذا هو المخاطب الفاعل« ،كما تشاء» .وهو موضع يتسامى
نسي ،من يحمل الذكريات والأساطير والأحلام فيه فعل الجنس بما يوحي به فعل «يدحو» ،ولا يقع
والأوهام والرموز؟ ذلك المعمي بحزنه ،من سواه
يبصر «النسور والعقبان والغربان» وهي «تنهش ال ّشاعر في ش َرك الابتذال.
أكبادنا وأعيننا وقلوبنا بلا حيلة»؟ ومن سواه
يبصر أسراب البدو وهم «يصبّون الس ّم في الآبار
الإلهية ،يبولون في قدس الأقداس» ،و»لا جنود ،لا
ح ّراس»؟ أغنية بلا صوت أو صدى ،ورثاء من غير
حزن أو دموع ،و»طلقة باقية» في «جعبة نافدة»،
وصمت لا يكسره إ ّل «الفحيح والنعيب والعويل
وال ّصراخ» .أغنية «أخيرة» على أرض «كاسدة».
وراع أعمى بصير ،رأى ما رأى.