Page 41 - ميريت الثقافية- عدد رقم 26 فبراير 2021
P. 41

‫‪39‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

                     ‫وما سيأتي آت بلا انتظار»‪.‬‬          ‫حينها‪ :‬حلمي سالم‪ ،‬ورفعت سلام‪ ،‬وحسن طلب‪،‬‬
‫أدرك رفعت سلام أن الشعر العربي يعاني أوها ًما‬           ‫وماجد يوسف ومحمد فريد أبوسعدة وأحمد طه‬
                                                      ‫ومحمد سليمان‪ ،‬وعبد المقصود عبد الكريم ومحمد‬
     ‫جمالية وخرافات معرفية وأيديولوجية كثيرة‪،‬‬
     ‫فلم يسلم بنقاء فكرة الحقيقة ولا براءتها‪ ،‬بل‬           ‫عيد إبراهيم وأمجد ريان‪ ،‬وعبد المنعم رمضان‬
    ‫رأي الحقيقة نفسها في أي صورة من صورها‬               ‫وغيرهم‪ ،‬وقد حاول كل واحد من هؤلاء على قدر‬
    ‫مجرد تدبير أيديولوجي مسبق‪ ،‬لذا عرج يهدم‬
    ‫فكرة اليقين ويعري وهم القداسة في كل شىء‪،‬‬              ‫مواهبه وثقافتة وإرادته الجمالية أن يقدم ن ًّصا‬
  ‫يقول رفعت سلام «لم يعد للشاعر أن ينخرط في‬           ‫مغاي ًرا عمن سبقه يجسد وعيًا مختل ًفا للغة والجمال‬
  ‫(جموع) غير موجودة‪ ،‬بل أن يكتشف ما يتخفي‬
 ‫وراء السطح الزلق‪ ،‬أن يع ِّري الأوهام والتواطؤات‬           ‫والعالم‪ ،‬وقد كانت المحددات العامة لهذا النص‬
 ‫الكاذبة‪ ،‬أن يفضح كل فردوس زائف وأبنية لامعة‬            ‫قوامها فقدان الثقة في الوعي السائد وما يؤسسه‬
  ‫براقة آيلة للانهيار القادم‪ ،‬أن يشير إلى أفق لم ير‬    ‫من أوهام الكمال والثبات‪ ،‬وفقدان الثقة في قدسية‬
                                                         ‫الظواهر والمظاهر الشائعة في الفكر والممارسات‪،‬‬
               ‫أح ٌد ومضاته التي تغطيها الغيوم»‪.‬‬        ‫وفقدان الإيمان بفكرة النموذج السياسي والثقافي‬
‫لقد رأي الشعر هنا أن الحقيقة السياسية والجمالية‬
                                                             ‫والجمالي‪ ،‬وانهيار فكرة البطل في كل شىء‪،‬‬
   ‫والمعرفية مجرد تدبير أيديولوجي رمزى‪ :‬مجرد‬                ‫وسقوط المتعاليات الأيديولوجية والشعارات‬
    ‫احتمال ضمن احتمالات كثيرة ممكنة‪ ،‬لذا عني‬          ‫القومية الطنانة وادعاءات الماضي العظيم‪ ،‬والتفكير‬
                                                              ‫مليًّا في تخثرات الحاضر وفجوات الأنساق‬
‫بفكرة المنظور عو ًضا عن فكرة النظرية‪ ،‬حيث تكون‬        ‫وانفصالات التواريخ وأنسنة المقدس وانهيار أفكار‬
   ‫الحقيقة مجرد حوار بيني مفتوح ضمن حوارت‬                 ‫المركز واليقين‪ .‬وقد تجاوب هؤلاء الشعراء مع‬
                                                        ‫زملاء لهم كانوا يحملون نفس همومهم الجمالية‬
‫كثيرة‪ ،‬أي تقع على الحدود بين التواريخ والثقافات‪،‬‬           ‫والأيديولوجية في جميع أنحاء الوطن العربي‪.‬‬
 ‫والشروخ بين الإدراكات‪ ،‬والفجوات بين الهويات‪،‬‬         ‫وقد أدي هذا الاندفاع الطليعي الصادم والعنيف إلى‬
                                                      ‫اتهام كثير من النقاد الأكاديميين وغير الأكاديميين‬
       ‫الحقيقة الجمالية حوار شتات وليست حوار‬               ‫لمعظم شعراء السبيعينيات وعلى رأسهم رفعت‬
‫أنساق ومركزيات‪ ،‬يقول الشاعر‪« :‬أنا الأعمى‪ ،‬فهل‬             ‫سلام‪ :‬اتهمومهم بالغموض والسيريالية وهدم‬
‫ضاجعت أمي في فراش أبي القتيل؟ لا‪ ،‬أيها العراف‬             ‫الواقع والهوية‪ ،‬وما كان هذا الاتهام لهم سوي‬
‫لا أبجدية لي‪ ،‬قناع بلا وجه‪ ،‬وشكل بلا جسد‪ ..‬هل‬          ‫صدورهم عن منظور مختلف في رؤية اللغة والفن‬
                                                      ‫والعالم‪ ،‬فهم يبحثون عن الفراغات في اللغة والواقع‬
   ‫أصيد الزمن الهارب في البراري كأرنب بري‪ ،‬أم‬         ‫والتاريخ لا الامتلاءات‪ ،‬عن النشاز المتخثر في جسد‬
‫أقطف الأحلام الذابلة من النسيان‪ ،‬أم أراوغ الفراغ‬        ‫الواقع لا الانسجام الوهمي السائد‪ ،‬عن الاختلال‬
‫أستجدي كسرة من عزاء لاذع‪ ،‬أو حفنة من الهباء‪،‬‬            ‫لا النظام في العالم‪ ،‬عن التدابير السياسية لمفهوم‬
                                                       ‫الحقيقة لا الثوابت الجمعية الكاذبة‪ .‬يقول الشاعر‪:‬‬
                ‫هل أتوا أخي ًرا بلا نفير‪ ،‬أو نذير»‪.‬‬        ‫«فماذا سترعي الآن‪ ،‬أيها اللئيم؟ سأرعي الملل‬
 ‫لقد دفع هذا الواقع العدمي شاعرنا إلى لون جديد‬            ‫العظيم‪ .‬إلى من أتكلم اليوم في الأرض الخراب؟‬
‫من ألوان الكتابة التجريبية القادرة على كتابة المحو‬     ‫أيتها الأحلام المغدورة‪ .‬أيتها الأوهام المقبورة‪ .‬من‬
                                                         ‫فينا يطارد الآخر؟»‪ .‬ويقول في نص آخر‪« :‬أيتها‬
    ‫في عمق الصحو الثقافي الزائف‪ .‬فأسس بلاغته‬               ‫اللحظة الماكرة‪ ،‬قوافل تمضي إلى أفق غائر أم‬
    ‫التشكيلية الجديدة‪ ،‬وهي بلاغة حداثية وما بعد‬        ‫هاوية؟ وتنساني وحي ًدا في براري الله‪ ..‬وشيء ما‬
  ‫حداثية‪ ،‬بلاغة ما بعد الهويات المركزية الاختزالية‬    ‫يروغ‪ ،‬طائر ينقض بغتة ويختفي‪ ،‬منتصف الليل أم‬
‫المقيتة‪ ،‬وفي هذه البلاغة التجريبية البينية التواصلية‬  ‫النهار؟ ساعة الصفر أم لحظة البوار؟ مات ما فات‪،‬‬
 ‫الجديدة يتحول الشعر والشاعر من فكر الوصاية‬
   ‫والاستعلاء إلى فكر تواصل الأكفاء‪ ،‬حيث تحس‬
  ‫الأصوات المتعددة المتحاورة في النص أنهم جمي ًعا‬
 ‫شركاء فيما يتحدثون فيه‪ ،‬فهم قادرون على التكلم‬
  ‫والحوار في أكثر من معجم وأكثر من واقع وأكثر‬
   36   37   38   39   40   41   42   43   44   45   46