Page 130 - مسيلة للدموع
P. 130
ُصِعق آسر من رد العجوز؛ فلا يمكن أن تكون دموعه دموع فرح؛ فالحزن يكادينطق من تعابير وجهه.
رد آسر مستفهما:
-مبارك يا سيدي .لكن لماذا تبكي؟
مسح العجوز عينيه بمعصمه الأيمن ،وأردف قائلا:
-أنا محبوس منذ سنين طويلة ،لا أدري بالضبط كم مَر منها ،أعشرون عاما؟ أم خمسة وعشرون؟ ربما
أكثر ،وربما أقل ،لم أحسبها ،ولا أدري حسبتها ،وكيف تحسب آلاف الأيام وأنت لا تدري في أي يوٍم
أنت؟
في بداية سجني كنت أحسب أيام الاعتقال يوما يوما؛ أملا في الحرية القريبة ،كنت في عنفوان شبابي،
وقمة حماسي ،لم أكن أعبأ.
أخبرني يا بُني ،ما هو شكلي الآن؟ متى تكَّونت تلك التجاعيد التي حّلت على وجهي ،وكيف؟ لا أدري!
ما أعرفه عني هي تلك الصورة التي كنت عليها عندما دخلت المعتقل ،أ ّما الذي ت اره أمامك الآن فأنا لا
أعرفه.
أحس آسر أنه مقطوع اللسان ،مشلول التفكير ،لم يستطع الرد ،حاول أن يقول أي شيء ،ولكن كل
محاولاته باءت بالسكوت.
أكمل العجوز كلامه:
-كان يزورني أهلي باستم ارر في أول سنين اعتقالي ،ولكن منذ فترة طويلة ،ربما عشر سنوات أو أكثر،
انقطعت عني أخبارهم ،لا أعرف عنهم أي شيء ،ما مصيرهم؟ من مات منهم؟ من َمِرض؟ من يذكرني،
ومن نسيني؟لا أعرف أي شيء مطلقا ،سأخرج من المعتقل لا أعرف لي أهلا أو عملا أكسب منه قوت
يومي ،سأخرج في زمان غير زماني ،وجيل غير جيلي ،وسأذهب إلى حياة مختلفة غير التي كنت أحياها
من قبل ،هل يسع خيالك لتتف ّهم ما أقوله؟
هَّز آسر أرسه بإيماءات ليست محددة ،أهي نفي أم إثبات ،لم يِفق من حالة الذهول التي تعتريه.
130
مسيلة للدموع