Page 147 - مسيلة للدموع
P. 147
تج َّمع الأهالي مرة أخرى ،واصطّفوا طوابير طويلة ،في محاولة جديدة لزيارة ذويهم بعد كل تلك
المماطلات ،واج ارءات منع الزيارة عن المعتقلين ،والتعُّنت الشديد من إدارة السجن في السماح للأهالي
بالزيارة؛ ليبقى المعتقلون مدفونين عنوة في تلك المقبرة ،دون زيارة عابرة لذويهم يتصبرون بها ،ويطمئنون.
بعد عناء كبير ،وانتظار لساعات طويلة في الطابور ،دخلت أم آسر ومعها فاطمة وحورية ،لم ترين آسر
ولا مرة منذ انتقاله من سجن جمصة إلى سجن العقرب ،مّرشه ارن كاملان في محاولة رؤيته ،ولكن بلا
جدوى.
الزيارة هنا في العقرب مختلفة ،فالمعتقلون يقفون خلف حواجز زجاجية ،وعلى مسافة كبيرة يقف الأهل،
التواصل يكون عبر جهاز يشبه الهاتف ،يتبادلون الحديث لمدة دقائق قليلة ثم تنتهي الزيارة.
جالت أم آسر بعينيها عبر النوافذ التي يقف خلفها المعتقلون؛ لكي تتمكن من إيجاد ابنها و ارء إحدى تلك
النوافذ ،لكنها لم تجده ،كذلك فعلت حورية وفاطمة ،بحثتا في الممر ذهابا وايابا ،ولكن ليس له أثر.
فإذا بأحد المعتقلين يلّوح لهم من بعيد ،اقتربن من النافذة لتتأكدن ،إنه آسر ،ولكن شكله مختل ٌف تماما،
مررن عليه مرتين ،لكنهن لم تعرفنه ،ولم تتوقعنأنه آسر!
كان نحيلا جدا ،فقد من وزنه الكثير للحد الذي أظهره بارز العظام ،كان «جلدا على عظ ٍم» ،كما ُيقال،
كانت عيناه غائرتين،يلت ّف حولهما سواد كثير ،ربما ادخرتا الكثير من ظلام السجن بالداخل ،تكسو وجهه
لحية غير مرتبة ،تتناثر حول وجهه كله ،ولكنه حاضر بابتسامته التي تُخمد حَّدة الضعف واله ازل،
وتطّيب الوجع المنعكس في صدر أمه وأخته وحورية بأنه ما ازل قاد ار على الثبات.
اندفعت أم آسر تحدث ابنها ،وتطمئن على حاله بعبا ارت متسارعة شوقا لسماع أنغام صوته ،لكن آسر لم
يسمع شيئا ،أشار إليها بأنه لا يسمعها ،وأن عليها أن تمسك بالجهاز؛ حتى يتحدثا من خلاله.
أمسكت فاطمة الجهاز بلهفة ،وقالت:
-آسر ،كيف حالك؟
انتزعت أمها الجهاز من يدها ،وقالت بلهفة أكبر:
ُ -بني ،ما الذي فعلوه بك؟
147
مسيلة للدموع