Page 87 - مسيلة للدموع
P. 87

‫في تلك الأجواء ال ُمظلمة التي تطل منها ارئحة البرد على استحياء‪ ،‬يخشى البرد أن يرحل فينتبه المعتقلون‬
      ‫لحلول الربيع‪ ،‬بينما هم لا يحسون إلا ببرودة الشتاء‪ ،‬فآثر أن يخفي ذلك السر عنهم‪ ،‬فأ ُّي ربيع ذلك الذي‬

                                                                                            ‫تتحد ُث عنه؟‬
                                                                          ‫وأين الشمس‪ ،‬والطيور‪ ،‬وال ُحرّية؟‬
                                                                         ‫بل أين الزهور‪ ،‬والألوان‪ ،‬والحياة؟‬

      ‫كل الذي هنا عينالموت وحقيقته‪ ،‬حتى يأذن الله بخروج هؤلاء الذين يسكنون السجون‪ ،‬ويحررهم في يوم‬
                                                  ‫سُيطلق عليه اسم الربيع عنوة‪ ،‬وان كان في عم ِق الخريف‪.‬‬

      ‫وفي وسط كل هذا ه َّب صوت آهات وأنات يتخلل البرد وال ُظلمة‪ ،‬ويجد متسعا ليعلو رغم ضيق الزن ازنة‪،‬‬
                                                                                       ‫وخلّوها من الف ارغ‪.‬‬

                                                  ‫انتبه المعتقلون لصوت تلك الأنات العالية فإذا به أحدهم‪..‬‬
      ‫ُمحمد‪ ،‬شاب صغير لكنه ذو عقل كبير‪ ،‬اقتربت أعوامه من بلوغ العشرين‪ ،‬له ه ّمة ونشاط‪ ،‬ويبدو بريق‬
      ‫الحماس في لمعة عينيه‪ ،‬كان شابا متطلعا طموحا‪ ،‬مبتسما ابتسامة تجبر الشمس على الشروق‪ ،‬وتحرك‬

                                     ‫أمواج البحر‪ ،‬وتهُّز أغصان الشجن‪ ،‬وتبرُز روح الحياة في محيط الحياة‪.‬‬

      ‫بداية إد اركه للحياة كانت ثورة‪ ،‬وبداية تجاربه في الحياة كانت اعتقالا فاعتقالا فاعتقالا؛ فقد تم اعتقاله‬
      ‫مرتين من قبل؛ بسبب حمله كامي ار‪ ،‬وتصويره للتظاه ارت وتوثيق الأحداث‪ ،‬حيث تم اعتقاله من قبل وهو‬
      ‫طفل قاصر حسب القانون‪ ،‬واحتجازه في أماكن احتجاز الُق ّصر‪ ،‬وهو ما يسمى (الإصلاحية)‪ ،‬ثم خرج‬

                                              ‫بعدها من السجن‪ ،‬وتلك هي المرة الثالثة التي يتم فيها اعتقاله‪.‬‬

      ‫تجمع المعتقلون حول محمد‪ ،‬أخبرهم بأنه يود الذهاب إلى المرحاض لكنه لا يستطيع الذهاب وحده‪ ،‬لا‬
      ‫يقوى على الوقوف أو المشي؛ فالألم شديد‪ ،‬والدوار يشعره وكأن كل ما حوله خدعة بصرية‪ ،‬أشباه بشر‬
      ‫يلتّفون حوله‪ ،‬ي ارهم ظلا‪ ،‬ولكن ليس بلون الظل الأسود‪ ،‬بل بألوان مشوشة يغلب عليها اللون الأبيض‬

                                                                                    ‫بطبيعة زي الاعتقال‪.‬‬

‫‪87‬‬

                                                                                            ‫مسيلة للدموع‬
   82   83   84   85   86   87   88   89   90   91   92