Page 80 - m
P. 80

‫العـدد ‪57‬‬   ‫‪78‬‬

                                                        ‫سبتمبر ‪٢٠٢3‬‬

                 ‫اللغز‬                                    ‫عندما انته ْت الأغنية‪ ،‬وجف ْت المخيلة‪ ،‬رجع الواقع‪،‬‬
                                                            ‫قاسيًا ومري ًرا‪ ،‬بهيئة زبون وضع في يدي ثمن‬
 ‫كانت ترنو إلى الأفق طوي ًل‪ ،‬وجهها مشر ٌق بالحنين‬                   ‫الشاي‪ ،‬ثم قام متأف ًفا‪ ،‬وهو يه ُّز يده‪..‬‬
  ‫وبالاشتياق‪ ،‬لكن عينيها الجميلتين تومضان ببرق‬
‫كئيب عندما تغني‪ ،‬ثم يهطل المط ُر مدرا ًرا على خديها‪،‬‬               ‫سرقات صيفية‬
‫وهي تمنح حنجرتها حرية الانطلاق في الهواء الطلق‪،‬‬
 ‫مثل عصفور انفتح له با ُب القفص‪ ،‬فترتع ُش روحي‬                       ‫(إلى إسكندر حبش)‬
 ‫مع صوتها الذهبي‪ ،‬وهو يعب ُر الجدران إلى السوق‪،‬‬          ‫هر َب أصحابي‪ ،‬ما إن خرج ْت من اللامكان‪ ،‬أما أنا‬

           ‫الذي يفتح أبوابه ونوافذه‪ ،‬لتم َّر المعجزة‪.‬‬      ‫فقد ج َّمدتني مكاني نظر ُتها الثابتة‪ .‬أمعن ْت النظ َر‬
  ‫كن ُت أمسح دموعها ببراءة‪ ،‬وكانت تقبِّ ُل يد ْي وهي‬    ‫إلى كل شيء حولها‪ ،‬فاكتشف ْت أننا سرقنا ملابسها‬
 ‫تبتس ُم‪ ،‬لكنني كن ُت لا أعرف اللغز المحيِّر في نظرتها‬   ‫الداخلية‪ ،‬التي كانت منشورة على حبل الغسيل‪ .‬لم‬

             ‫لي‪ ،‬التي يختلط فيها الأسى مع الفرح‪.‬‬           ‫تقل شيئًا‪ .‬أشعل ْت سيجارة‪ ،‬وكانت تلك فرصتي‬
   ‫لم أفهم لماذا كانت حزينة‪ ،‬ولم أسألها‪ ،‬ربما لأني‬        ‫لإلقاء نظرة مختلسة إلى وقفتها الباسلة‪ ،‬مستع ًدا‬
 ‫كنت طف ًل‪ ،‬أو ربما لأنها‪ ،‬دون مقدمات‪ ،‬انسل ْت من‬
‫نافذة الغرفة‪ ،‬وهرب ْت‪ ،‬ذات فجر بارد‪ ،‬فلم أرها‪ ،‬بعد‬                                    ‫للامتثال لأي أمر‪.‬‬
                                                         ‫كانت ثمة وردة‪ ،‬قطف ُتها من حديقتها‪ ،‬لكنها وقع ْت‬
                                      ‫ذلك‪ ،‬أب ًدا‪..‬‬
                                                           ‫من يدي‪ ،‬ربما من فرط الرعب‪ ،‬أو ربما من فرط‬
                ‫النافذة‬                                 ‫الجمال‪ ،‬ال َجمال الذي كان يتش َّم ُس في نمش وجهها‪.‬‬

     ‫التفات والنظر إلى النافذة‪ ،‬حيث كنت تنتظرين‪،‬‬            ‫لا أتذكر كيف فهم ُت أن عليَّ أن اخلع ثيابي‪ .‬ولا‬
     ‫بصبر‪ ،‬مرور الحظ بهيئة فارس‪ ،‬فتقفزين بقوة‬            ‫أعتقد أنها أمرتني بذلك‪ .‬ربما لأنه الحل الذي خطر‬
   ‫الحب إلى ظهر جواده‪ ،‬منتشية بحلم‪ ،‬لا سبيل إلى‬         ‫في عقلي الطفل‪ :‬ثيابي مقابل ثيابها‪ ،‬فامتثل ُت‪ :‬خلعت‬

                        ‫تحقيقه حتى في الروايات‪.‬‬               ‫ثيابي‪ ،‬ثم مشي ُت عار ًيا‪ ،‬لكنها‪ ،‬قبل أن أتسلق‬
   ‫كانت الحرب ترتدي خوذة‪ ،‬وتطوف في الشوارع‪،‬‬                ‫السياج‪ ،‬وأقفز عائ ًدا‪ ،‬إلى الزقاق الذي أتي ُت منه‪،‬‬
  ‫بحثًا عن قتيل‪ ،‬فيما كن ِت غارقة في التأمل‪ :‬تطيرين‬       ‫أوقفتني بحزم‪« :‬خ ْذ ثيابك»‪ ،‬ثم انحن ْت‪ ،‬وأعطتني‬
   ‫مع الموسيقى‪ ،‬وتذوبين في الشعر‪ ،‬غير أن الواقع‬
  ‫كان أشد قسوة‪ ،‬إذ تح َّطم البي ُت‪ ،‬وتبخر ْت الشم ُس‬                                            ‫الوردة‪.‬‬
                                                        ‫بعدها ابتسم ْت‪ ،‬فتح ْت باب البيت لأخرج‪ ،‬ربت ْت على‬

                                                                                 ‫كتفي‪ ،‬ودخل ْت غرفتها‪..‬‬
   75   76   77   78   79   80   81   82   83   84   85