Page 137 - m
P. 137

‫نون النسوة ‪1 3 5‬‬                                                                        ‫تعشق الشعر‬
                                                                                      ‫ويعشقها الموت‬
 ‫عليه السلام ‪-‬إذ تتشابه الأحداث‪ ،‬ولا تتفق المآلات‬                                   ‫أن تختبئ» ص‪.7‬‬
   ‫كما قد يتوقعها المتلقي‪ -‬معالم السكون ولحظات‬              ‫ويتجسد الموت عبر هذه السطور ردي ًفا للقمع‬
   ‫الانفصال التي تسبق رحلة شديدة الخصوصية‬               ‫والإقصاء والتهميش الذي يطال المرأة في كثير من‬
                                                       ‫الأحيان‪ ،‬خاصة إن كان لديها من الأحلام والرؤى‬
 ‫نحو ذاتها؛ فرغم ما َت َع َّرض له قلبها من انكسارات‬       ‫والقناعات ما ينكره عليها المجتمع‪ ،‬حتى يلفظها‬
     ‫وخيبات‪ ،‬ورغم بؤس حاله في هذا الموضع من‬               ‫خارج حصون الآمنين الذين يشملهم بقبوله ما‬
    ‫العالم منزو ًيا في بئر مظلم‪ ،‬فإن مفردات الكاتبة‬   ‫داموا يدورون في فلك أفكاره السائدة‪ ،‬ولا يحاولون‬
       ‫كشفت منذ البداية عن إمكان التعافي؛ حينما‬        ‫الخلاص منها أو التغريد خارج السرب تعبي ًرا عن‬
    ‫استخدمت كلمة «انكمش» بد ًل من تحطم‪ ،‬فتلك‬                          ‫قناعات ورغبات وإبداعات خاصة‪.‬‬
                                                              ‫وحين ُتلقى ‪-‬مجا ًزا‪ -‬في بئر تأنس لظلمته‬
  ‫الكلمة‪ ،‬وإن ُن ِس َجت في صورة سوداوية وضبابية‬       ‫ووحشته ولا تحاول الاستغاثة‪ ،‬وإن بدأت على نحو‬
    ‫فقد حملت في طياتها رؤية تأبى الاستسلام؛ إذ‬        ‫مفارق أولى خطوات النجاة التي تتكأ فيها على ذاتها‬
      ‫يشي الانكماش بالخوف والاضطراب واتخاذ‬
    ‫خطوة للوراء تبدأ بعدها سبي ًل جديدة دون أن‬                                           ‫دون سواها‪:‬‬
         ‫تتعلق بأقدام عابر قد يلقيها عند أول بئر‪.‬‬                     ‫«ظلي تمرد بعدما م َّل انكساراتي‬

‫ثم أخذت القصائد التالية تنسج أدوات المرأة وحيلها‬                              ‫وأغلق بابه دوني وقال‬
    ‫لتجاوز بؤس الواقع وأزماته متحسسة الطريق‬                                         ‫«هذا فراق بيننا»‬
          ‫نحو مركزية ذاتها في عالم موا ٍز‪ .‬فتقول‪:‬‬
             ‫«نحتال على الحياة بابتسامة طيبة‬                          ‫يا رفيقة الليل والدمعة الخائبة‬
                                             ‫‪...‬‬          ‫يا أخت القلب الذي كلما قذفوا به إلى الجدار‬
                      ‫ونرتدي في أكفنا المتشققة‬
                                ‫قفازات مخملية‬                                                 ‫انكمش‬
        ‫فيظننا الملوح بالسلام مرفهين» ص‪.22‬‬                                ‫وكلما ألقوا به في بئر اختبأ‬
   ‫فقد جعلت الابتسامات سلا ًحا تواجه به أزماتها‬
                                                                                  ‫فلا لمحته عين وارد‬
‫وتخفي به انكساراتها‪ ،‬وقد عبرت عن ذلك مباشرة‬                         ‫ولا ُب ِّرئ من دمه ذئب» ص‪.15 ،14‬‬
 ‫مرة‪ ،‬ثم أعادت تشكيله عبر مفارقة استعارية مرة‬              ‫وتكشف السطور السابقة عن ملامح خطواتها‬
                                                      ‫الأولى في تجاوز الصدمات والإقصاء والرفض عبر‬
    ‫أخرى؛ إذ تخفي كفها المتشققة بقفازات مخملية‬          ‫مفارقة تتناص مع قصة موسى والخضر وقصة‬
    ‫لتعكس صورة ُم َفا ِرقة للواقع‪ ،‬تما ًما كما تداري‬       ‫يوسف عليهم السلام جمي ًعا؛ إذ تبدأ القصيدة‬
  ‫حزنها وندبات روحها بالابتسامات فيظنها الناس‬            ‫بـ»هذا فراق بيننا»‪ ،‬وتستدعي هذه الجملة رحلة‬
                                                          ‫من الاستكشاف والأسئلة المستمرة التي ترتهن‬
                                        ‫سعيدة‪.‬‬           ‫إجاباتها بالفراق متناصة في ذلك مع قوله تعالى‪:‬‬
  ‫وتشكلت الحيلة نفسها عبر جعل السبورة معاد ًل‬           ‫«قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم‬
                                                         ‫تستطع عليه صبرا» (سورة الكهف‪ )78 :‬فعقب‬
     ‫رمز ًّيا لها؛ إذ بإمكان السبورة رغم ما يحفرها‬       ‫قرار الفراق فسر الخضر لموسى سبب ما فعله‪،‬‬
  ‫عليه الطبشور وما ينالها من قسوة ملمسه أحيا ًنا‬         ‫وأجاب أسئلته‪ .‬وبقرار الفراق الذي بدا إقصائيًّا‬
   ‫أن تخرج منها ضحكة‪ ،‬وأن تعلم البنات والبنين‪،‬‬              ‫وقاسيًا في مطلع القصيدة أتيحت لها الفرصة‬
                                                            ‫للاقتراب من ذاتها وبدء أولى خطوات الرحلة‬
    ‫وهو نفسه ما تفعله المعلمة؛ إذ تتخطى الصعاب‬
     ‫بالضحكات‪ ،‬وتعلم وتضاحك الأولاد والبنات‪.‬‬                                                  ‫نحوها‪.‬‬
                                                           ‫وتتشكل عبر مفارقة تتناص مع قصة يوسف‬
       ‫فـ»رغم وجهها الذي تلهو فوقه الخدوش‬
     ‫وجبينها الذي تبني التجاعيد عليه عرشها‬

                ‫وعينيها المعفرتين بغبار أبيض‬
                           ‫تبقى شامخة وقوية‬

                     ‫يتساقط منها أولاد وبنات‬
   132   133   134   135   136   137   138   139   140   141   142