Page 215 - m
P. 215

‫‪213‬‬  ‫الملف الثقـافي‬

 ‫بالوجود فإنهم يعتبرونه إما‬         ‫وهو الذي يتجلى مباشرة‬     ‫أهم جانب بالنسبة لدراستنا‬
    ‫مصدر إزعاج أو شخ ًصا‬              ‫في تاريخ الاستشراق‪،‬‬          ‫الحالية‪ ،‬لأن فيه يكشف‬

  ‫شرقيًّا وحسب‪ .‬ومما يؤكد‬         ‫والعامل الثاني هو الصراع‬    ‫سعيد بكل صراحة ووضوح‬
   ‫نزعته اللادينية في الكتاب‬         ‫بين العرب والصهيونية‬             ‫عن الأسباب الذاتية‬
                                     ‫الإسرائيلية وتأثير ذلك‬
      ‫قوله‪« :‬ولقد تمكنت من‬                                    ‫والقومية التي دفعته لدراسة‬
  ‫استخدام مشاغلي الإنسانية‬      ‫الصراع في اليهود الأمريكيين‬                  ‫الاستشراق‪.‬‬
                                    ‫وفي الثقافة المتحررة وفي‬
       ‫والسياسية في تحليل‬                                          ‫وهو في تصريحه بهذه‬
‫ووصف موضوع دنيوي إلى‬            ‫السكان بصفة عامة‪ ،‬والعامل‬           ‫الأسباب والدوافع إنما‬
‫حد كبير‪ ،‬وهو نشأة وتطوير‬             ‫الثالث هو الانعدام شبه‬        ‫يؤسس لمنهجية جديدة‬
 ‫وتدعيم الاستشراق»‪( .‬نفس‬
                                 ‫التام لأي موقف ثقافي يتيح‬           ‫تعترف بالبعد الذاتي‬
            ‫المرجع‪ ،‬ص‪)٧٩‬‬         ‫للفرد التعاطف مع العرب أو‬            ‫والنفسي من ناحية‪،‬‬
‫وأخي ًرا‪ ،‬نلاحظ كيف استطاع‬                                         ‫وبالسياق السياسي من‬
                                   ‫الإسلام‪ ،‬أو مناقشة أيهما‬   ‫ناحية أخرى‪ .‬وفي هذا الصدد‬
        ‫سعيد أن يستفيد من‬        ‫مناقشة غير انفعالية‪( .‬نفس‬    ‫يعترف بأن شرقيته هي التي‬
    ‫المنجزات المنهجية الغربية‬                                    ‫كانت وراء إقدامه على هذا‬
   ‫في مجال العلوم الإنسانية‬                 ‫المرجع‪ ،‬ص‪)78‬‬       ‫العمل‪ ،‬وهي «شرقية» كثيفة‬
   ‫ويوظفها بحيث تكون أداة‬          ‫ونلاحظ أن سعيد يحرص‬             ‫محملة برصيد كبير من‬
‫لكشف وفضح مثالب وعيوب‬                                         ‫الخبرات الحياتية والتاريخية‬
                                      ‫على الفصل بين العرب‬          ‫التي لا يمكن إغفالها أو‬
      ‫الاستشراق‪ ،‬خاصة في‬               ‫والمسلمين من ناحية‪،‬‬         ‫التغاضي عنها‪ ،‬فيقول‪:‬‬
    ‫رجوعه إلى فيكو وميشيل‬         ‫وضمهما في فئة واحدة هي‬      ‫«ومعظم رصيدي الشخصي‬
  ‫فوكو‪ ،‬وأنطونيو جرامشي‪.‬‬          ‫«الشرق» من ناحية أخرى‪.‬‬            ‫الذي استثمره في هذه‬
   ‫وفي كل الأحوال‪ ،‬فنحن في‬           ‫وفي كل الأحوال لا يميز‬     ‫الدراسة مستمد من وعيي‬
‫حاجة إلى كلا الرؤيتين الدينية‬    ‫بينهما حين التعرض لتحليل‬     ‫بأنني «شرقي» باعتبار أنني‬
 ‫والدنيوية‪ ،‬وإلى كلا المعرفتين‬   ‫العلاقة بين الغرب والشرق‪،‬‬     ‫نشأت طف ًل في مستعمرتين‬
    ‫النقلية والعقلية‪ ،‬وإلى كلا‬  ‫فكلاهما عانى من الاستعمار‪،‬‬      ‫بريطانيتين‪ ،‬أما تعليمي‪ ،‬في‬
    ‫الخطابين العاطفي الأدبي‬          ‫وكلاهما كان موضو ًعا‬     ‫هاتين المستعمرتين (فلسطين‬
   ‫والعلمي المنهجي‪ .‬وإذا كان‬        ‫لأطروحات مضللة قدمها‬            ‫ومصر) وفي الولايات‬
 ‫ثمة تناقض ظاهر في المواقف‬      ‫المستشرقون وباتت مسلمات‬        ‫المتحدة‪ ،‬فقد كان كله غربيًّا‪،‬‬
                                    ‫في الوعي الثقافي الغربي‬      ‫ومع ذلك فإن ذلك الوعي‬
      ‫المتباينة بين المعسكرات‬                                     ‫المبكر العميق ظل قائ ًما»‪.‬‬
       ‫المتعارضة‪ ،‬فإن العداء‬                         ‫العام‪.‬‬         ‫(نفس المرجع‪ ،‬ص‪)76‬‬
  ‫المشترك للغرب‪ ،‬والخضوع‬             ‫كما يلاحظ أن سعيد لا‬           ‫ومن الناحية التاريخية‬
   ‫المشترك لهيمنته‪ ،‬والشعور‬      ‫يقف ‪-‬مثل الجندي والغزالي‬      ‫يرصد سعيد أسباب شيطنة‬
‫المشترك بالقهر والظلم تجاهه‪،‬‬       ‫ممن كتبوا عن الاستعمار‬           ‫الغرب للشرق العربي‬
  ‫من شأنه أن يوحد الفصائل‬          ‫من منظور ديني‪ -‬مداف ًعا‬        ‫والإسلامي‪ ،‬ويحددها في‬
      ‫المتباعدة ويضم الجهود‬          ‫عن الدين ضد الهجمات‬           ‫ثلاثة عوامل‪ :‬الأول‪ ،‬هو‬
     ‫المشتتة‪ ،‬ويستكمل الرؤى‬          ‫الاستعمارية‪ ،‬لكنه يقف‬       ‫تاريخ التعصب الشائع في‬
‫المتشظية والمجتزئه‪ ،‬حتى يمكن‬      ‫منص ًفا لشرقيته ولعروبته‪،‬‬   ‫الغرب ضد العرب والإسلام‪،‬‬
‫تصحيح الرؤية‪ ،‬وتركيز القوى‪،‬‬          ‫ولإنسانيته‪ ،‬فخبرته في‬
       ‫ومن ثم إحداث التغيير‬          ‫الحياة في أمريكا كشفت‬
                                     ‫له كيف أنه غير موجود‬
                                      ‫سياسيًّا‪ ،‬وإذا ُسمح له‬
   210   211   212   213   214   215   216   217   218   219   220