Page 29 - تاريخ مصر الإسلامية 1 ثالثة ارشاد سياحى
P. 29
هذه هي التجربة التي مرت بها دولة الاسكندر ودولة الفرس والإمبراطورية
الرومانية في العصور القديمة ،والتى تعرضت لها الإمبراطوريات الاستعمارية الكبرى
في العصور الحديثة.
ولم تكن الدولة الإسلامية في العصور الوسطى – وهي أعظم وحدة سياسية
وحضارية شهدها العالم في تلك العصور – بمنجاة من سنة التاريخ وقانونه العام.
فالدولة الإسلامية قامت أشد ما تكون قوة وانطلاقا ،ولكن الباحث المدقق يستطيع منذ
فجر هذه الدولة أن يضع يده على نقاط الضعف :عصبية قبلية ولدت صراعاً خفياً أو
تنافساً مكشوفاً بين اليمنية والمضرية ،حقد على قريش لاستهثارها بالسيادة وخروجها
بنصيب الأسد من مال الفيىء والغنائم دون سائر قبائل العرب التي لم تتقاعس عن
القيام بواجبها في الجهاد والفتح ،خلاف بين بنى هاشم وبني أمية حول الفوز بالخلافة
،انقسام بين الشيعة والسنة ،تباعد بين العرب والموالى.
هذه كانت بذور الضعف في قلب الخلافة نفسها ،فإذا انتقلنا إلى الأطراف وجدنا
حالات من السخط الذي أستتر أحياناً خلف ستار الديانة الجديدة وقد أخذت تنتشر
انتشاراً سريعاً من المحيط إلى الخليج .فأهالي الأمصار التي فتحها العرب معظمهم من
أصحاب الحضارات القديمة والأصول العريقة التي تفخر بماضيها وتعتز بكيانها
المستقل .وهل هناك شعوب في التاريخ القديم أعظم من أهل مصر والشام والعراق
وفارس؟ أجل هل هناك في الحضارات القديمة أعرق من حضارات النيل والفرات
والهلال الخصيب ومرتفعات إيران؟ فإذا كان الأمر كذلك ،فكيف ترتضى هذه الشعوب
الخضوع لقوة سياسية تحكمها من خارج حدودها حكما مركزياً شاملاً؟ ربما اتخذت تلك
القوة الديانة الإسلامية مبرراً لبسط سيطرتها على تلك الشعوب الجمة ذات الأصول
المتنوعة .ولكن هل يتعارض الإسلام مع الاستقلال؟ وهل هناك ما يمنع أهل مصر –
على سبيل المثال – من أن يعيشوا مستقلين داخل حدود بلادهم ،في ظل حكومة محلية
ترعى شهونهم ،وذلك مع تمسكهم بأصول الديانة الإسلامية الجديدة التي أقبلوا على
اعتناقها طائعين مختارين عن عقيدة وإرادة حرة.
فإذا تركنا الأمصار واتجهنا إلى حدود الدولة الإسلامية الكبرى ،وجدنا مجموعة
من الأعداء يتربصون الدوائر بالدولة الإسلامية ،وانتمى معظم هؤلاء الأعداء إلى
الكتلة المسيحية ،فما كاد يبدو ضعف الدولة الإسلامية واختلال أمورها ،حتى أدرك
أولهك الأعداء أن ساعة الانتقام قد حانت ،فخرج الروم من آسيا الصغرى في القرن
العاشر للميلاد يغزون إقليم الجزيرة ،ويتويلون في بلاد الشام حتى جنوبها ،وشرع
ملوك الفرنجة والممالك المسيحية التي قامت في شمال أسبانيا يهاجمون المسلمين في
الأندلس ،بل لقد خرجت في القرن التالي الجيوش الجرارة من الغرب الأوربي قاصدة
29