Page 30 - تاريخ مصر الإسلامية 1 ثالثة ارشاد سياحى
P. 30
جوف الوطن الإسلامي في الشرق الأدنى ،هذا في الوقت الذي لم تنقطع إيارات أهل
النوبة المسيحيين على حدود مصر الجنوبية .ومهما يقال في تفسير هذه الأحداث
والهجمات المتعددة المصادر ،فإنه ينبغي أن نضع أمام أعيننا حقيقة كبرى ،هي أن
الكنيسة المسيحية ظلت منذ القرن السابع للميلاد تشعر بمرارة قاسية لنجاح حركة
الفتوح العربية الإسلامية في تحويل بلاد ارتبطت بها أصول المسيحية وتاريخها الأول
– مثل الشام ومصر والجزيرة وشمال أفريقية – إلى الإسلام والعروبة .ولكن ماذا كانت
تستطيع أن تفعل الكنيسة في القرن السابع للميلاد وقد دب الضعف في العالم المسيحي
وساد التفكك أطرافه؟ لم يكن أمام الكنيسة سوي الإنتظار حتى تتاح لها الفرصة وتدور
الدوائر على دولة الإسلام وعندئذ تخرج الجيوش من مخلتف أنحاء العالم المسيحي –
من الشمال والغرب والجنوب – في محاولة للثأر والانتقام.
وفي وسط هذه العوامل العديدة التي نحاول الاستعانة بها لتفسير انحلال الدولة
الإسلامية ،يتبادر إلى أذهاننا سؤال قد تكون له وجاهته .لقد رأينا أن كثيراً من القبائل
العربية نزحت من شبه الجزيرة العربية يداة حركة الفتوح ،واستقرت في الأمصار
الجديدة لتصبغها تدريجياً بصبغة عربية إسلامية جديدة ،فما دور هؤلاء المستوطنين
العرب في قمع الحركات الانفصالية التي قامت في الولايات من جهة ثم في دفع الأخطار
الخارجية التي تعرضت لها من جهة أخرى؟ الواقع أن العنصر العربي الذي دخل
الأمصار وانتشر فيها واستقر بين ربوعها لم يستطع أن يحتفظ بعزلته طويلاً ،إذ لم
يلبث أن اختلط هؤلاء الوافدون تدريجياً بأهل البلاد الأصليين ،وخاصة بعد انتشار
الإسلام بين هؤلاء الأخيرين ،ونتج عن هذا الاختلاط مولد شعب واحد في كل مصر من
الأمصار ،وربما رأي هذا الشعب مصلحته في الاستقلال عن الخلافة وتنظيم أموره
على مستوى إقليمي محلي .هذا بالإضافة إلى ظاهرة هامة يلمسها المشتغلون بالتاريخ
هي أن الشعوب المناضلة التي ألفت الحرب والجهاد ،واعتادت في وطنها الأول حياة
الخشونة والبداوة ،هذه الشعوب كثيراً ما تتعرض للذبول السريع عندما تتحول إلى
حياة الاستقرار ودعة العيش .لأنها في ظل تلك الحياة الهادئة اللينة السهلة تفقد كثيراً
من صلابتها وقوة احتمالها وفضائل أخلاقها التي كانت في حقيقة أمرها السر فيما
حققته من انتصارات أيام حركتها وبساطتها الأولى.
30