Page 51 - merit 49
P. 51
49 إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
ليضيع كل ما هو قيم ومفيد في حمأة الرداءة فمسؤوليتهم هذه تبدو في موضوعيتهم وهم
الكثيفة القاتلة. يؤسسون لأنفسهم نه ًجا خا ًّصا ممي ًزا.
لعل في النفي المتعمد للناقد كليًّا من المشهد أظن -بعد كل ما سبق -أن النقد الجيد نقد
الكلي للثقافة المحيط بكاتب ما ،يصل الناقد إلى سلطوي ومهيمن ،ويدفع الكتاب إلى أن يراجعوا
أعلى درجات سلطته وهيمنته ،فهذا النفي دليل
الوجود حت ًما ،فمن عمل على التخلص من الناقد أنفسهم .إن النقد سيدفع الكتاب عند التقدم
ونقده ،ولم يعترف به ،ولم يسع إلى محاورته، في العمر أو في التجربة ،أو هما م ًعا ،شرط أن
يصبحوا أكثر نض ًجا ،وغير خاضعين لشهوة
يكون الناقد قد أصاب عمل الكاتب في مقتل، الشهرة والأضواء الساطعة ،سيدفعهم ذلك إلى
وجعله مشلو ًل لا يدري ماذا يعمل سوى النفي الاعتراف بسلطة الناقد وتأثيره عليهم ،وأنهم
في مرحلة ما من مراحل حياتهم كانوا ُهو ًجا،
الكلي من مشهديته الخاصة في الحضور ،وفي
الكتابة ،وفي التفاعل أي ًضا ،أظن أن الكاتب في و ُعو ًجا ،وسيرون أن النقد كان داف ًعا قو ًّيا
هذه الحالة سيظل يعاني من «فوبيا النقد» ،ولن ليكونوا أجمل وأقوى ،أما الكاتب الرديء الذي
يكون بمقدوره إنتاج نص جيد إلا إذا تطور شب رديئًا وشاب على ما شب عليه من الرداءة،
وعيه ،وتصالح مع إمكانية انتقاده وبيان عيوب
لن ينفع فيه النقد مهما كانت سلطته قوية،
كتابته ،ولنتذكر جمي ًعا أن « َم ْن نشر عرض بل إنه سيمارس أساليب التشهير والحط مما
نفسه للنقد» ،ولن يستطيع أحدنا أن يكتب قرآ ًنا ُكتب عنه ،وسيلجأ إلى محاولة تجريد الناقد من
أدواته وقدراته .هذا النوع من الكتاب لا أمل
مهما أوتي من بلاغ ٍة وقو ِة عبارة ،ولذلك كل فيه ،فهو لن يتطور البته ،بل إن الزمان تجاوزه،
المبدعين واقعين -شاءوا أم أبوا -تحت سلطة ولن يكون بمقدوره أن يخلق نفسه من جديد،
الناقد التي لا تتسامح ولا تعرف الحلول الوسط. لقد استقر على أن يكون رديئًا ،ولن ينتج غير
الرداءة والتكرار ،وهم كثر ،ويزدادون استفحا ًل،
ولأن النقد يشغل هذه المساحة من التفكير لأنهم جمعوا من حولهم جوقة من ال َكتبة الذين
الإبداعي ،كان لا بد من أن يتمتع بالسلطة يوهمونهم أنهم يكتبون نق ًدا ،فينفخونهم كما
بتجلياتها كافة ،سواء أكانت سلبية أم إيجابية، ينفخ البالون ،هذا البالون الذي يتلاشى عندما
وبذلك تكتسب العمليات النقدية على اختلافها
تتعرض تلك الأعمال لتلك العمليات النقدية
أهميتها التي لا غنى عنها ،مهما اتسعت الموضوعية ،وإذ بكل الذي ُكتب لا يمثل شيئًا ولا
النظريات الإبداعية والنقدية ونظريات التلقي،
سيظل النقد صاحب هذه السلطة التي يخشاها يفيد كاتبه مثقال حبة من خردل.
المبدع الحقيقي ،لكنه أي ًضا يسعى بحكم عملها ربما هذه الظاهرة هي الخطر الحقيقي الذي
الرقابي الفني إلى أن يجود عمله ،طام ًحا أن يواجه سلطة الناقد ،فلا يقوضها إلا تلك
يفاجئ الناقد الخبير ،والقارئ المتذوق سواء «الأعراس النقدية» الاحتفالية التي يهرف بها
بسواء ،فكما تدغدغه آراء القراء العاديين المدعون بما لا يعرفون ،فيكونون وبا ًل على
والإقبال على كتبه وشرائها ومناقشتها في الكتابة والكتاب ،وعلى النقاد أي ًضا ،وإذا ما تم
المحافل ،إلا أنه أكثر نشوة وزه ًوا إذا ما كتب تجريد الناقد من سلطته الإبداعية المؤسسة على
ناقد متبصر نق ًدا فيما يكتب وإن كان في بعض الخبرة العميقة والمعرفة سيختلط حابل الأدب
منه في غير صالح العمل ،وكأن لسان حاله يقول
بنابله ،وستصبح مهمة القارئ عصية ،فأي
كما قال الشاعر ابن الدمينة الخثعمي: كتاب سيختار لينمي به فكره ومشاعره .إن في
َل ِئ ْن سا َءني أَن ِنل ِتني ِب َم َسا ِء ٍة
َلقَد َسرنى َأني خَ َطر ُت ببالِ ِك سقوط «سلطة الناقد» تقويض لسلطة المبدع
أسا ًسا ،ليتساوى الكاتب المجتهد المبدع مع
الكاتب الذي يخبط في عشواء الأفكار والأسلوب،