Page 52 - merit 49
P. 52

‫العـدد ‪49‬‬                                                     ‫‪50‬‬

                                                               ‫يناير ‪٢٠٢3‬‬

‫د‪.‬محمد الديهاجي‬

‫(المغرب)‬

‫طوبوغرافية الصورة‬

‫إن وظيفة الصورة الشعرية من خلال هذا الفهم‪ ،‬هي من جهة أولى‬

‫وظيفة حوارية‪ ،‬وذلك بفتحها لأبواب المساءلة داخل الذات المبدعة‪،‬‬
‫وكذا الذات المتلقية‪ ،‬قصد استنطاق المجهول واستكشاف ضفافه‪ ،‬وأي ًضا‬
‫بفتحها (الوظيفة الحوارية) نقا ًشا مطو ًل بين أفق انتظار ‪horizon‬‬

‫‪ d’attente‬الشاعر الذي يروم تغيير المفاهيم والمعايير المتداولة‪ ،‬بفعل‬

‫الانزياحات المتكاثرة داخل الصورة الشعرية‪ ،‬وبين أفق انتظار المتلقي‬

‫الذي من المفروض أن يتفاعل مع هذه الصور‪ ،‬بعد مرحلة المتعة والفتنة‬

‫والدهشة‪.‬‬

    ‫إن ممارسة اللعبة الشعرية‪ ،‬من داخل الصورة‬       ‫بمفهوم الصورة الفنية‪ ،‬التح ُّق َق الساحر‬         ‫يقصد‬
  ‫الفنية‪ ،‬هي ممارسة للخلق والابتكار‪ ،‬لا ممارسة‬       ‫الحاصل في فضاء الخيال الرحب‪ ،‬من‬
                                                       ‫خلال تشغيل آليات البناء‪ ،‬في الذهن‬
     ‫للتمثيل الذي لا ينفذ إلى عمق الأشياء‪ ،‬وعمق‬       ‫والنفس م ًعا‪ ،‬عند المبدع‪ ،‬قصد إنجاز‬
‫الوجود المتجلي والغائر في الوقت نفسه‪ ،‬إذ لا يمكن‬      ‫وتحقيق صورة تدهش المتلقي وتؤثر‬
                                                                                    ‫فيه‪.‬‬
   ‫للتجربة الشعرية أن تكون رؤياوية بغير سحر‬              ‫والصورة الشعرية‪ ،‬هي مرحلة من مراحل‬
 ‫الصورة الفنية‪ .‬فالشاعر والناقد الكبير «أدونيس»‬          ‫البناء التخييلي في الشعر‪ ،‬وشكل من أشكال‬
  ‫يميز بين عالمين في التجربة الشعرية‪ :‬عالم ينتهي‬    ‫التعبير‪ ،‬وينبوع متدفق من الأحاسيس والدلالات‬
 ‫عند حدود التمثيل من خلال تجربة نمطية‪ ،‬وآخر‬          ‫السيكولوجية التي يستحيل ‪-‬في غالب الأحيان‪-‬‬
 ‫يتجاوزه إلى إعادة البناء والخلق من خلال تجربة‬      ‫أن تتجسد عيا ًنا؛ بل إنها لا تنهض بغير انفعالات‬
‫رؤياوية (تصويرية)‪ .‬الصورة الشعرية إذن‪ ،‬شكل‬
 ‫من أشكال ترميز هذا الوجود وتكثيفه‪ ،‬من خلال‬        ‫اللاشعور‪ ،‬وما خفي من الأحاسيس‪ ،‬الشيء الذي‬
                                                       ‫ُيم ِّكن الخيال من أن يكون سحر اللغة في عالمه‬
    ‫تذكر واسترجاع معطيات حسية‪ ،‬أو من خلال‬
 ‫تفعيل كيمياء الذهن وخبرته‪ ،‬قصد استثمارها في‬      ‫البطليموسي‪ .‬وبناء عليه فإن الصورة الشعرية‪ ،‬هي‬
‫الخلق والإبداع والإضافة وليس التذكر‪ .‬فبالصورة‬                ‫عمل ذهني‪ ،‬يتجاوز حضور موضوعها‪.‬‬

    ‫الشعرية‪ ،‬يمكن إضافة لحظات وجودية عميقة‬             ‫هكذا تصير الصورة الشعرية‪ ،‬محاولة تكثيف‬
  ‫ومعتمة‪ ،‬هي بمثابة كنه الكينونة‪ ،‬بهدف صبغها‬      ‫عاطفي ووجداني‪ ،‬للتجربة الوجودية‪ ،‬بلغة إيحائية‪،‬‬

                ‫بحركية الزمان والمكان الرمزيين‪.‬‬      ‫قصد تحقيق الفعل والقول الشعريين‪ ،‬فض ًل عن‬
 ‫وبهذا الفعل تغدو الصورة مرك ًزا لإضاءة المناطق‬       ‫أنها عمل ذهني خالص ينقل «عقدة» معينة (قد‬

      ‫الأكثر غرابة والأكثر دهشة‪ ،‬في هذا الوجود‪،‬‬      ‫تكون هذه العقدة فكرية أو عاطفية) من تجربتها‬
    ‫من أجل استكشافها والقبض عليها‪ ،‬في شكلها‬                 ‫الوجودية المعيشة إلى لحظة أكثر رمزية‪.‬‬
   ‫السديمي‪ ،‬بحيث لا يقوم الشاعر سوى بمنحها‬
   47   48   49   50   51   52   53   54   55   56   57