Page 77 - merit 54
P. 77

‫‪75‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصة‬

   ‫الرسالة لم تكن متوقعة‪ ،‬والحساب الذي أُرسلت‬            ‫جاء مصادفة؟ ومن هو أول قتيل في تلك البقعة‬
 ‫منه اختفى‪ ،‬وظهرت عبارة واضحة «هذا الشخص‬               ‫من الأرض‪ ..‬اللعنة! اقتل لتعيش‪ ،‬لقد قرأها كثي ًرا‬
‫لا يمكن التواصل معه»‪ ،‬والصورة الشخصية كانت‬              ‫وتتحقق أمامه‪ ،‬وكما نجا «قايين» من القصاص‪،‬‬

   ‫لحيوان لم يتمكن من تحديد ملامحه‪ ،‬حاول –بلا‬                ‫أفلت الكثيرون من السياف وحبال المشانق‬
     ‫جدوى‪ -‬معرفة شخص المرسل ولماذا اختاره‪،‬‬                                      ‫والكراسي الكهربائية‪.‬‬

  ‫ومن أين أتى بهذه المعلومات‪ ،‬وهل هي صحيحة؟‬           ‫وقطع انشغاله في تدوين الملاحظات ظهور رسائل‬
    ‫وتكررت الرسائل القادمة من حسابات مجهولة‬              ‫عديدة كانت من كوثر ورمزي والفيل الصغير‪،‬‬
       ‫حملت معلومات عن طبيعة التربة التي بنيت‬           ‫وتعجب حين وجد رسالة من سمير وأخرى من‬
    ‫فوقها المجاورة‪ ،‬ونوعية الرمال التي استخدمت‬           ‫سعيد فاصوليا‪ ،‬وكما توقع كانت جميعها تدور‬
                                                        ‫حول استفهام بديهي لم يصرح أحدهم به حول‬
  ‫في الخرسانة‪ ،‬وما بها من أملاح‪ ،‬كما حددت بدقة‬            ‫اهتمامه بالمجاورة والأحداث التي تقع داخلها‪،‬‬
    ‫شخصيات بعض القتلى‪ ،‬وأسباب موتهم‪ .‬كانت‬
                                                      ‫فتصنع الغباء هو الآخر‪ ،‬وإن قرر عدم الذهاب إلى‬
  ‫الرسائل غامضة‪ ،‬والأخبار مخيفة‪ ،‬والحياة هناك‬          ‫هناك لأسبوعين على الأقل‪ ،‬فقد كانت الامتحانات‬
    ‫أكثر رعبًا‪ ،‬فالعثور على قتيل في الرمال المتاخمة‬   ‫على الأبواب وأهمل متابعة ولديه تما ًما تار ًكا الأمر‬
                                                         ‫لزوجته كما هي عادته‪ ،‬لكنه الآن متقاعد تقريبًا‬
 ‫للمجاورة أمر متكرر‪ ،‬أصاب السكان بالفزع‪ ،‬حتى‬
 ‫أنه بالتزامن مع الغروب لا يظهر أحد في الشوارع‪،‬‬            ‫فذهابه إلى مكتبه صار ناد ًرا‪ ،‬وينتظر موافقة‬
 ‫وتغلق الشرفات والنوافذ‪ .‬وخو ًفا من الأشباح كان‬       ‫تأخرت على طلبه بالإحالة إلى التقاعد‪ ،‬آه‪ ،‬لقد صار‬
‫السكان يتركون المصابيح مضاءة في الشرفات التي‬           ‫شخ ًصا آخر! أو لنقل شخصين‪ ،‬أحدهما يكتشف‬
  ‫من النادر أن تفتح إحداها قبل أن تشرق الشمس‪،‬‬
                                                        ‫وجوده ويراه يقطن في مجاورة النور وحي ًدا مع‬
   ‫حتى أنه لا يوجد من يذهب إلى المسجد في صلاة‬             ‫أشباح تجالسه‪ ،‬والآخر كهل يعرفه بدرجة ما‪،‬‬
  ‫العشاء أو صلاة الفجر‪ ،‬ودعاء القنوت كان يقطع‬                                      ‫ويحاول استعادته‪.‬‬
                                                         ‫ولأكثر من عشرين يو ًما لم يغادر شقته تقريبًا؛‬
     ‫السكون المهيمن حيث إمام المسجد بحكم عمله‬
    ‫ومقيم الشعائر والمؤذن والخادم هم من يؤدون‬        ‫فابنه الأكبر بعد أيام سيبدأ الثانوية العامة‪ ،‬ومتابعة‬
 ‫هذه الصلوات‪ ،‬والقشعريرة تتسرب إلى أجسادهم‪،‬‬              ‫دروسه والاهتمام به كان ضرور ًّيا‪ ،‬ولم يشغله‬
 ‫خاصة حين يعلو الصوت المتحشرج بالدعاء «وقنا‬
  ‫وأصرف عنا شر ما قضيت»‪ ،‬أو «ولا تسلط علينا‬            ‫شيء آخر إلى أن جاءت رسالة من مجهول يحمل‬
‫بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا»‪ ،‬وكثي ًرا ما تغيَّب‬      ‫اسم «السيد صفر»‪ ،‬يخبره بشخصية القتيلين؛‬
‫الإمام بل وصل الأمر إلى بث الخادم أحيا ًنا لشعائر‬
‫صلاة الفجر من إذاعة القرآن الكريم مع إغلاقه باب‬         ‫فتاة في بداية العشرينات تعمل كومبارس وتاجر‬
                                                       ‫يستثمر أمواله في إنتاج الأعمال الدرامية‪ ،‬والفتاة‬
                                        ‫المسجد‪.‬‬
  ‫رمزي وحده برغم عدم انتظامه في الصلاة تح َّدى‬           ‫مقطوعة من شجرة تقريبًا‪ ،‬وحيدة لأبوين ماتا‬
‫ما يدور حوله‪ ،‬وذهب مرتين إلى صلاة الفجر‪ ،‬وفي‬          ‫قبل سنوات‪ ،‬وتعيش بمفردها وفشلت في استكمال‬
‫المرة الثالثة اتصل بالرجل المسن الشاهد على معركة‬     ‫تعليمها‪ ،‬أما الرجل فصاحب سلسلة مطاعم شعبية‪،‬‬
 ‫السائقين وطلبة الإنجليزية‪ ،‬ولم يتحرك الأخير إلا‬       ‫وشريك في شركة للنقل الجماعي‪ ،‬يمتلك أكثر من‬
‫حين هاتفه رمزي وهو يقف أسفل البناية والخوف‬           ‫ثلاثين ميني باص تديرها الشركة ضمن سياراتها‪،‬‬
‫يدب في أوصاله‪ ،‬وتشجع مع وجود رفيق يصاحبه‪،‬‬
                                                            ‫ومنذ سنوات صار شري ًكا في إنتاج الأعمال‬
     ‫ومع خروجهم من المسجد كانت كلاب سوداء‬               ‫الدرامية‪ ،‬وعرف عنه اكتشافه للمواهب الجديدة‪،‬‬
    ‫تنادي بعضها وتقترب منهما‪ .‬أح َّسا بقشعريرة‬
‫وتماسكا بصعوبة‪ ،‬ولما كانت شقة رمزي أقرب فقد‬                ‫خاصة من الحسناوات‪ .‬أما كيف كون ثروته‬
 ‫سارعا بالدخول وأغلقا الباب والكلاب يعلو نباحها‬           ‫خلال سنوات قليلة فلا يعنينا كثي ًرا‪ ،‬وذبحهما‬
                                                        ‫لم يكن جريمة شرف‪ ،‬فمن قتلهما حاول الإيحاء‬
                                                       ‫بذلك‪ ،‬وختم رسالته بأنهما ليسا «إساف ونائلة»‪.‬‬
   72   73   74   75   76   77   78   79   80   81   82