Page 81 - merit 54
P. 81

‫‪79‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصة‬

 ‫أعرف أن العاصفة ستدمر بعض البيوت الصغيرة‬                ‫يرشون البخور حولي والملح فوق رأسي‪ ،‬لن أشعر‬
 ‫الواطئة‪ ،‬وستلقي بحاوية القمامة في حوش حارس‬                ‫بالتقزز أو الخوف‪ ،‬لكنني مضطر لإخافة كل من‬

     ‫المدرسة‪ ،‬كما ستخلع جذور الزيتون‪ ،‬لكنها لن‬           ‫يحاول إزعاجي مثل الشيخ نصر الأحمر‪ ،‬فأصرخ‬
    ‫تتعرض لأصحاب الوجوه النضرة بالسوء‪ .‬لن‬                   ‫في وجهه‪« :‬توقف عن ملاحقة جارتك سعدية‬
  ‫أخاف السحب وهي تنتفخ كامرأة تحمل في بطنها‬                 ‫يا حمري»‪ ،‬يتراجع إلى الوراء ويصاب بالروع‪،‬‬

       ‫جنينًا مش َّو ًها يشبه الذين تفجروا أثناء إلقاء‬   ‫يستعيذ بالله من الشيطان ومني‪ ،‬فأزيد من خوفه‬
   ‫الصواريخ فوق بيوتنا قبل أن أموت وأبعث مرة‬               ‫وأواصل‪« :‬قري ًبا سيقتلك أهلها ويلعنك سكان‬
                                                          ‫حارتك»؛ تضربني أمي وتصرخ‪ :‬انخمد يا ولد‪،‬‬
                                         ‫أخرى‪.‬‬                              ‫احنا في إيش وأنت ف إيش‪.‬‬
‫الزمن يجري‪ ،‬يهرول‪ ،‬يسابق ظلي المتكسر وينحني‬
                                                        ‫يولي الأحمر هار ًبا إلى جهة غير معلومة كما قيل في‬
     ‫للريح‪ ،‬بينما تتغير الأحجية‪ ،‬يذهب بي أبي إلى‬          ‫طفولتي الماضية دون ذكر الأسباب‪ ،‬ويظل الناس‬
 ‫الشيوخ وأمي إلى العرافات في محاولة لفك طلاسم‬            ‫يحلفون بعمره وكراماته؛ لأنني كنت ‪-‬فيما يبدو‪-‬‬
‫صمتي وعجزي عن التواصل مع أقراني في المدرسة‬                ‫رسالة الله التي غفرت ذنب ذلك الأحمق وسترت‬
  ‫الإعدادية‪ .‬أذكر أنني سئمت الذهاب إلى الأطباء في‬            ‫عيبه وزلاته وعلاقاته غير المشروعة مع بعض‬
                                                                                                ‫النسوة‪.‬‬
    ‫حياتي السابقة لأجل ك ِّي وحمة في الرأس تشبه‬               ‫أكبر قلي ًل‪ ،‬أجري بين الأزقة‪ ،‬أرتطم بجدران‬
      ‫الأرنب‪ ،‬واليوم يجري ذلك الحيوان اللعين في‬
     ‫بساتيني ليأكل الجزر الموغل في قلب سيصيبه‬           ‫متهالكة حتى أصل السوق‪ ،‬لن أعبث بمياه الصرف‬
                                        ‫العطب‪.‬‬               ‫الصحي مع ابن عمتي كما في حياتي السابقة‪،‬‬

   ‫‪ -‬هذه ليست وحمة‪ ،‬أنت بحاجة لعملية جراحية‬                 ‫سنقلع عن تدخين عيدان الملوخية‪ ،‬بل سأحضر‬
                      ‫صغيرة‪ ،‬وسيختفي الأرنب‪.‬‬              ‫سيجارة حقيقية من جيب بنطال أبي‪ ،‬فيفضحني‬
                                                           ‫الغبي الذي سيصير شر ًها في شرب الماريجوانا‬
 ‫جسدي ينمنمني‪ ،‬عقلي ساحة حرب‪ ،‬قلبي يدفعني‬                 ‫والسفر‪ ،‬يضربني والدي بقسوة لكنني رغم ذلك‬
  ‫للبوح والحديث مع الناس عن موت يمحق المزارع‬              ‫أستمتع بم ِّج السيجارة بينما أبصر الحياة بشكل‬

   ‫بعد سنين من هذا التاريخ‪ :‬هل يجب ألا ينتخبوا‬                   ‫مختلف‪ ،‬إنني الستيني ابن العشرة أعوام‪.‬‬
       ‫الحمقى من أجل الفاسدين؟! أم أن الأحداث‬             ‫أحمل حقيبتي وأذهب إلى مدرسة (العتيقة)‪ ،‬أعبث‬
                                                        ‫مع أصدقائي بعيدان صغيرة وأوراق يابسة سقطت‬
    ‫كتبت في الناموس ولا يمكن تغيير الواقع؟! هل‬          ‫بعدما أصابها خريف العمر بالتعب‪ ،‬تما ًما كما سقط‬
    ‫سيصدقون إن أخبرتهم بما سيحدث من تطور‬                  ‫جارنا مازن برصاصة قناص عند دخولنا المرحلة‬
  ‫في العالم‪ ،‬مما سيسهل التواصل بين الأهل في كل‬           ‫الإعدادية؛ ففي إحدى المظاهرات‪ ،‬أطلق جندي النار‬
 ‫مكان؟ هل سيتجهزون للطائرات والقنابل المتفجرة‬
                                                            ‫متلذ ًذا باصطياد الأطفال‪ ،‬ممار ًسا ساديته بحق‬
      ‫والشهداء والفقراء أم سيلقون بي في مصحة‬               ‫الجوعى ممن يبحثون عن بقايا طعام في السوق‪،‬‬
                                       ‫نفسية؟!‬
                                                             ‫دون أن يعرف ذلك الوغد كيف سينقلب الحال‬
‫أتهيأ للسفر وأقرر الخلاص الفردي‪ ،‬أحمل حقيبتي‬               ‫بعد عدة سنوات ليصير الأطفال عمالقة‪ ،‬يقتلونه‬
‫وأطير إلى جمهورية مصر التي زرتها وحفظتها قبل‬               ‫وزوجته في مستوطنة غوش قطيف انتقا ًما لطفل‬

  ‫أن أمشي في شوارعها‪ ،‬المعضلة أنها باتت تختلف‬                                                     ‫آخر‪.‬‬
   ‫عن آخر مرة زرتها في جحيمي‪ /‬حلمي السابق‪،‬‬                 ‫أكبر دون خوف من البرق والرعد‪ ،‬أو الن َّوة التي‬
                                                          ‫ستأتي على المخيم‪ ،‬سأمشي برفقة أمي إلى البقالة‬
     ‫فعلى بساطتها تبدو ألطف بكثير‪ ،‬بلا تكلف أو‬
 ‫تطرف‪ ،‬هناك ألتقي عمتي التي توفيت بعد عشرين‬                                          ‫منتشيًا‪ ،‬وهي تغني‪:‬‬
                                                                               ‫‪ -‬أنت البطل يا ابن بطني‪.‬‬
    ‫سنة في غزة‪ ،‬حين تم تهريبها من خلال الأنفاق‬
     ‫الفاصلة بين غزة ورفح المصرية‪ ،‬لأنها لم تكن‬
    ‫تحمل هوية فلسطينية تسمح لها بزيارة وطنها‬

                      ‫الذي نشأت وترعرعت فيه‪.‬‬
   76   77   78   79   80   81   82   83   84   85   86