Page 85 - merit 54
P. 85
83 إبداع ومبدعون
قصة
محتوياته على كلاب مطلية بالدم والعفن كانت البلدية» تنضح د ًما وعفنًا ،بجانبها بركة دماء
مستلقية بقربه فف َّرت هاربة في كل الاتجاهات وقال متخثرة تحوم حولها زمرة من الكلاب الضالة
الشرسة وسحابة سوداء من ذباب مسعور وطابور
متأف ًفا ويده على أنفه: من الثيران السمينة المتوجسة من الكلاب حولها
“ -هذه كارثة بيئية وسنعمل على تحرير شكاية في ولا تعرف أن ما ينتظرها يتجاوز ما قد يلحقه بها
مخلب طائش .انتصب السيد «التهميش» بمعطفه
الموضوع”. الأسود الذي يمنحه هيبة ووقار رجال السلطة
الكلمات تتطاير كشظايا من فاهه ،استل هاتفه قبالة البناية حيث الدماء المتدفقة لا تتوقف عن
المتواضع من جيب معطفه الأسود القاني ،التقط التسرب من قنواته ،قال بصوت عا ٍل وحا ٍّد وشرارة
صورة للبركة الآسنة ،وغادر وهو يهدد ويشجب
ويستنكر ويلهج بكلمات متقطعة وغير مفهومة الغضب تتطاير من عينيه:
-أيها الهمج! من حرك هذه البحيرة الراكدة أيها
ويداه تتطايران في الهواء. الملاعين ،فأضحت المدينة كجيفة عفنة عطنة تزكم
ما إن ُيحول عينيه عن المشكل حتى ينساه ،فتبحث
الأنوف وصار العيش فيها لا يحتمل».
عيناه عن شيء آخر لتتعلقا به ويعلق عليه. بصق وركل كيس قمامة كان أمامه فتناثرت
وفي المساء يتحلق حوله الشباب والأطفال ويرغبونه
ليحكي لهم بعض بطولاته عن الحب وعن معاركه
النضالية وكيف وقف في وجه قائد متجبر ومنعه
من حرمان قريته من حقها في الماء فرضخ القائد
لطلبه في وقت لا يستطيع الناس رفع أعينهم
الخانعة في وجهه .لكن دارت الحياة ..يحكي
باستمرار رغم أن كلماته تتغير لكنها لا تنفذ.
يظهر ويختفي متى شاء ولا أحد يعرف أين يذهب
حين يتقلب مزاجه ويقرر الانسحاب من المشهد.
فحين يغضب غضبًا حا ًّدا لا يعالجه إلا بمقاطعة
الناس والانفراد بفواجعه الخاصة والتبخر في
الهواء لمدة طويلة إلى أن يقرر العودة للظهور.
ذات مرة غاب حتى كاد الناس ينسونه كما نسوا
الكثيرين قبله رغم أنهم لم يموتوا .وظهر ذات
مساء يمشي على استحياء ،بشعر أشعت غزاه
البياض ،ولحية منسدلة مبعثرة ،وأسمال بالية
متسخة ،وقدمين حافيتين ،وروح شاردة .يكلمه
الناس وينادون عليه «والتهميش» كما اعتادوا أن
يفعلوا ولا يجيبهم بل ولا يلتفت إليهم حتى .بات
شخ ًصا آخر لا يشبه الذي كانه في السابق .عاري
من كل رواسب ما ٍض ثقيل الذي أ َّرق ُه وحمل ه َّمه
فقصم ظهره وتبخر عقله ،انقطع عن العالم حوله
ولا يعير أدنى اهتمام لما يدور أمامه .تحول إلى
كتلة سديمية لا أحد يعرف ما يدور في خلده .عيناه
ملتصقتان بالأرض يبحث عن أعقاب السجائر في
المقاهي وعن فتافيت طعام فاسد .يتجول صامتًا
منكس الرأس وهاد ًئا على غير عادته..