Page 12 - ميريت الثقافية العدد 24 ديسمبر 2020
P. 12

‫العـدد ‪24‬‬   ‫‪10‬‬

                                                      ‫ديسمبر ‪٢٠٢٠‬‬

   ‫يوصف وللصمت‪ ،‬وأخي ًرا‪ :‬كان في ظهور الرواية‬          ‫ما (مفرد‪ -‬جمع‪ ،‬ماضي‪ -‬حاضر) مكا ًنا لمصطلح‬
    ‫الجديدة على يد روب غرييه ورفاقه عودة لأدب‬               ‫ثالث‪ ،‬محايد‪ ،‬أو مصطلح‪ -‬صفر‪ .‬هكذا تظهر‬

                        ‫منشغل بمسألة الشكل(‪.)6‬‬           ‫الصيغة الإشارية للفعل‪ ،‬إذا ما قورنت بصيغتي‬
    ‫إن درجة صفر الكتابة تمثل ر ًّدا على تلك الكتابة‬           ‫التمني والأمر‪ ،‬وكأنها شكل بلا صيغة»(‪.)4‬‬
  ‫الملتزمة في أفقها الزمني المحدود بحدود التوصيل‬
     ‫والصيغة الأداتية التي تلصقها بالمعنى الأدبي‪،‬‬      ‫لكن بارت في كتابه يستخدم هذا المفهوم استخدا ًما‬
   ‫أو إدراكه بوصفه كتابة جميلة أو مكتوبة بمهارة‬          ‫استعار ًّيا ليعارض به مفهوم الالتزام الذي روج‬
   ‫أو إهمال‪ ،‬لأن هذين الوصفين هما بوجه أو آخر‪،‬‬          ‫له وأشاعه جان بول سارتر في كتابه (ما الأدب)‬
‫يلتحقان مع الزمن باللغة‪ ،‬لكن الأدب بوصفه تجربة‬          ‫في الأربعينيات من القرن الماضي‪ ،‬ومن هنا‪ ،‬تغدو‬
     ‫شاملة لا يقبل الحدود‪ ،‬ولذلك يرى بلانشو أن‬
 ‫بارت عبر مفهوم الدرجة الصفر للكتابة «قد وضع‬           ‫الكتابة في درجة الصفر تلك الكتابة غير الموسومة‬
    ‫أصبعه على اللحظة التي يمكن فيها إدراك معنى‬         ‫اجتماعيًّا على نحو تواصلي مباشر‪ ،‬كما أنها ليست‬
    ‫الأدب‪ ،‬ولكن في هذه النقطة لا يكون الأدب فقط‬
‫كتابة بيضاء‪ ،‬غائبة‪ ،‬لا لون لها‪ ،‬بل تكون هي تجربة‬          ‫منذورة لمجال اجتماعي أيديولوجي محدد‪ ،‬إنها‬
‫الانحياد نفسه‪ ،‬التي لا تسمع أب ًدا؛ لأنه عندما يتكلم‬    ‫اشتغال على الدال إن صح هذا الاختزال «فالكتابة‬
    ‫الانحياد يكون الشخص الذي يخضعه للسكوت‬               ‫في درجة الصفر‪ ،‬هي في العمق‪ ،‬كتابة إشارية‪ ،‬أو‬
‫وحده الذي يهيئ شروط الاستماع‪ ،‬مع أن ما يمكن‬           ‫إذا شئنا‪ ،‬كتابة بدون صيغة»‪ ،‬إنها تلك الكتابة التي‬
‫سماعه هو ذلك الكلام المحايد‪ ،‬الكلام الذي كان يقال‬        ‫تتحرر من «كل عبودية لنظام لغوي ملحوظ»(‪.)5‬‬
                                                         ‫في درجة صفر الكتابة يظهر بارت بوصفه قار ًئا‬
                                       ‫دائ ًما»(‪.)7‬‬   ‫لسارتر ولمشروعه حول الكتابة الملتزمة‪ ،‬ورغم ذلك‬
     ‫يلح بارت على تحرير الكتابة من وعد زمني أو‬        ‫لم يذكره في كتابه وكأنه لون من التجاوز والتحفظ‬
   ‫الانشغال بما هو زمني‪ ،‬فالكينونة الكاملة للأدب‬
     ‫تتجلى في نزوعه إلى أنطولوجيا لا زمنية‪ ،‬تتجلى‬         ‫على مفاهيمه‪ ،‬التي تبدو أقرب بدرجة ما لمنظور‬
  ‫في كتابة بيضاء محايدة تبدد كل مسؤولية سابقة‬           ‫بريخت عن علاقة الفن بتغير المجتمع‪ ،‬علاوة على‬
   ‫عليها أو حتمية أيديولوجيا‪ ،‬إنها إخلاص للشكل‪.‬‬         ‫ذلك‪ ،‬ففي منتصف الخمسينيات والستينيات بطل‬
     ‫«كان سارتر ينظر إلى الكتابة البيضاء على أنها‬       ‫سحر فكرة الالتزام الأدبي‪ ،‬وذوى بعي ًدا الخطاب‬
 ‫رفض للالتزام‪ ،‬لكن بارت كان يرى أن كتابة كامو‪،‬‬           ‫الساتري‪ ،‬وتضافرت عوامل متنوعة في انحسار‬
‫شأنها شأن أمثلة أخرى؛ فهي تناضل ضد «الأدب»‬            ‫موجته‪ ،‬منها‪ :‬شهادات الإدانة المتعاظمة التي كشفت‬
      ‫وافتراضاته عن المعنى والنظام‪ .‬فالأدب الجاد‬         ‫بؤس النظام الشيوعي من داخله‪ ،‬وكان في غزو‬
  ‫عليه أن يضع نفسه والأعراف التي تستخدمها في‬           ‫السوفييت للمجر وبناء جدار برلين مؤك ًدا لتهاوي‬
  ‫تنظيم العالم‪ ،‬موضع السؤال؛ وهنا تكمن إمكاناته‬          ‫النظام اليوتوبي الموعود‪ ،‬مما جعل اليسار يوجه‬
   ‫الجذرية‪ ،‬غير أنه «لاوجود لكتابة تظل ثورية على‬        ‫سهام نقده لهذا النظام‪ ،‬لكنه لم يتخل عن قناعاته‬
  ‫الدوام»؛ ذلك لأن كل انتهاك لأعراف اللغة والأدب‬      ‫الثورية؛ فوجدوا في البنيوية ال ّصاعدة ح ًّل لتعويض‬
   ‫يمكن استعادته في النهاية وتحويله إلى نمط أدبي‬        ‫الوجودية السارترية ومفهومها عن الالتزام‪ ،‬نظ ًرا‬

                                      ‫جديد»(‪.)8‬‬           ‫لإعطاء البنيوية لعلاقات التضامن داخل النسق‬
‫ورغم أن بارت في هذا الكتاب يقدم أطروحة مغايرة‬          ‫دو ًرا في معرفة الظاهرة‪ ،‬مما نتج عنه إفراغ الذات‬

  ‫عن الكتابة التي كرسها سارتر‪ ،‬فإن كتابة سارتر‬           ‫الفاعلة المتفردة التي نادى بها سارتر‪ ،‬وكان من‬
       ‫نفسه كان لها تأثيرها العميق فيه‪ ،‬خاصة في‬       ‫عوامل انحسار الالتزام أي ًضا‪ :‬بروز اتجاهات أدبية‬

 ‫نفوره الواضح من الفلسفة الجوهرية التي وصلت‬              ‫جديدة جعلت الالتزام على هامش الأدب‪ ،‬متخلي ًة‬
   ‫إلى نوع من كراهية كل أشكال «الوحدة»‪ ،‬ودعمه‬         ‫عن دوجما الواقعية الاشتراكية ويقينيتها‪ ،‬وكان في‬
                                                      ‫تنامي معسكرات الإبادة ما يكفي لتحطيم اليقينيات‬

                                                          ‫الراسخة‪ ،‬فقادت ُكتَّا ًبا مثل بلانشو ومرجريت‬
                                                        ‫دوراس وباطاي إلى إفساح كتاباتهم لمسألة ما لا‬
   7   8   9   10   11   12   13   14   15   16   17