Page 15 - ميريت الثقافية العدد 24 ديسمبر 2020
P. 15

‫‪13‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

   ‫الكتابة السابقة‪ ،‬ومتخذة من النص وحدة لخلخة‬            ‫بل‪ ،‬على العكس من ذلك‪ ،‬يكمن في الاختلاف الدائم‬
‫المقولات السائدة على تجمع الأعمال في بنى الأجناس‬        ‫الذي يطرحه بوصفه خصوصية‪ ،‬وكذلك‪ ،‬إذا أردنا‬
                                                       ‫الاحتفاظ بمفهوم البنية لتحديد الدال الأدبي‪ ،‬فينبغي‬
  ‫وتراكم الكتابات فيها‪ ،‬لذلك يعلن بارت أن «النص‬
   ‫لا ينحصر في الأدب (الجيد)‪ ،‬إنه لا يدخل ضمن‬             ‫توضيح أن هذه البنية دينامية‪ ،‬ولا يمكن فهمهما‬
    ‫ترتيب‪ ،‬ولا حتى ضمن مجرد تقسيم للأجناس‪،‬‬               ‫فع ًل على أنها صورة أو رسم بياني مادام أن الكل‬

      ‫ما يحدده‪ ،‬على العكس من ذلك‪ ،‬هو قدرته على‬                                        ‫في النص يدل»(‪.)15‬‬
  ‫خلخلة التصنيفات القديمة‪ ،‬داخل أي صنف ينبغي‬
                                                                         ‫‪-4‬‬
     ‫أن نضع ج‪ .‬باتاي؟ هل هذا الكاتب قصاص أم‬
     ‫شاعر أم كاتب مقالة؟ هل هو رجل اقتصاد أم‬               ‫سيغدو هذا الوعي مناط التحول من البنيوية إلى‬
  ‫فيلسوف أم متصوف؟ إن الجواب عن هذا السؤال‬                  ‫النصية‪ ،‬ومن الغاية التصنيفية الاستيعابية إلى‬
 ‫جد عسير إلى حد أن الكتب المدرسية في الأدب عادة‬        ‫الممارسة القرائية الدلالية والإنتاجية للدوال‪ ،‬لينطلق‬
  ‫ما تفضل السكوت عن باتاي وتناسيه‪ ..‬لقد سبق‬             ‫مفهوم النص بوصفه اللانهائية الدينامية للشفرات‬
     ‫لتيبودي ‪ Thibaudet‬أن تحدث عن الآثار التي‬            ‫التي تدين لمبدأي‪ :‬اللعب الحر للدوال المفتوحة على‬
‫توجد على الحدود‪( ،‬مثال ذلك حياة رانسي ‪Rance‬‬               ‫تعددية المعاني وتنوع مدارج إنتاج الدلالة‪ ،‬واللذة‬
   ‫لشاتوبريان التي تبدو اليوم ن ًّصا)‪ :‬النص هو ما‬        ‫الشبقية التي لا تختزل في غاية تواصلية أو عملية‬
 ‫يوجد على حدود قواعد القول (من معقولية وقابلية‬           ‫للسان‪ .‬وليس من شك‪ ،‬أن هذا التحول ينقلب معه‬
‫القراءة)‪ .‬لا علاقة لهذه الفكرة بالبلاغة‪ ..‬النص دو ًما‬    ‫النموذج العلمي الذي تبناه رأ ًسا على عقب‪ ،‬وليس‬
 ‫بدعة وخروج عن حدود الآراء السائدة»(‪ .)17‬بمعنى‬          ‫أدل على ذلك من مقالته المتأخرة ‪-‬التي تمثل بلورة‬
  ‫آخر‪ ،‬يدخل النص في دائرة فرادته الخاصة متأبيًا‬            ‫نهائية لموقفه‪( -‬من العلم إلى الأدب) التي يحمل‬
  ‫على المشاكلة مع غيره‪ .‬بل يكسر توقع السائد بما‬           ‫عنوانها صيغة تضاد بين مفهومي العلم والأدب‪،‬‬
                                                            ‫وتحو ًل من الأول إلى الآخر‪ ،‬ويراجع في مقالته‬
                ‫فيها مقولات التصنيف الأجناسي‪.‬‬             ‫تلك النزعة العلمية التي تبنتها البنيوية من خلال‬
   ‫ويترتب على هذا التصور الجديد‪ ،‬وعي مغاير بل‬          ‫اهتمامها الخاص بالتصنيفات والقوانين والتنظيمات‬
                                                           ‫التي أولتها وفق تصورها النسقي أولية خاصة‪،‬‬
     ‫مضاد للمبادئ التي آمن بها في تحليله لأنساق‬         ‫لكن بارت في مقابل ذلك يصرح بأنه «يلزم البنيوي‬
  ‫السرد‪ ،‬المستمدة من النموذج اللساني ومسلماته‪،‬‬            ‫أن يتحول إلى «كاتب» لا لتلقين الأسلوب الجميل‬
   ‫بل نراه على نحو واضح يتنكر لها‪ ،‬بل يعدها من‬          ‫أو مزاولته‪ ،‬أو للاهتداء إلى المعضلات الشائكة لكل‬
  ‫متخيلات اللغة التي تحمل في باطنها متخي ًل للعلم‬      ‫تلفظ‪ ،‬حين لا يعود بالإمكان تغليفها بالضباب الخير‬
                                                       ‫للأوهام محض الواقعية‪ ،‬التي تجعل من اللغة مجرد‬
      ‫والحقيقية‪ ،‬فنراه يصرح دون مواربة في (لذة‬
 ‫النص) بمساءلة هذا الوعي والتنكر له قائ ًل‪« :‬علينا‬                                    ‫وسيط للفكر»(‪.)16‬‬
                                                           ‫ومن هنا يقع التقاطب الحاد بين العمل والنص‪،‬‬
     ‫أن نحسن رصد متخيلات اللغة‪ :‬اللفظة كوحدة‬              ‫فيأتي تجاوزه لمفهوم الأجناس أو الأنواع الأدبية‬
  ‫مفردة وكجوهر مفرد سحري‪ ،‬الكلام كأداة للفكر‬
‫أو كتعبير عنه‪ ،‬الكتابة كرسم للكلام‪ ،‬الجملة كوحدة‬              ‫في ظل سعيه لتجاوز مفهوم (العمل الأدبي)‬
                                                           ‫وإحلال مفهوم (النص)‪ ،‬الذي يبدو مناق ًضا من‬
    ‫قياسية منطقية مغلقة‪ ،‬النقص اللغوي أو رفض‬              ‫جهات متنوعة معه‪ ،‬تناقض المشروع البنيوي مع‬
‫اللغة كقوة أولية‪ ،‬تلقائية‪ ،‬برغماتية‪ .‬كل هذه الأدوات‬       ‫ما بعده‪ .‬لذلك يبدو مفهوم النص ملا ًذا لتوصيف‬
 ‫المصطنعة يحملها متخيل للعلم على عاتقه «العلم من‬         ‫جديد يتخطى منطق النزعة التصنيفية‪ ،‬عبرت عنه‬
                                                           ‫نصوص تقع على التخوم متخطية في آن مفاهيم‬
   ‫حيث هو متخيل»‪ :‬فاللسانيات تنطق بالحقيقة في‬
   ‫موضوع اللغة‪ ،‬لكن في حدود ما يأتي‪« :‬ألاّ يكون‬
‫أي وهم واع قد ارتكب»‪ :‬والحال أن هذا هو تعريف‬

                  ‫المتخيل‪ :‬عدم وعي اللاوعي»(‪.)18‬‬
  ‫إن تلك الغواية القديمة بشعار علمية الأدب توضع‬
   10   11   12   13   14   15   16   17   18   19   20