Page 19 - ميريت الثقافية العدد 24 ديسمبر 2020
P. 19

‫‪17‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

  ‫ذاته إلى تصفح بعض الأجزاء «تلك التي نستشعر‬             ‫متجاو ًزا نزعة زمنية‪ ،‬بل (لعبة نرد) بين القارئ‬
  ‫أنها مملة»‪ ،‬وإلى تخطيها كي نسرع بالوصول إلى‬              ‫والكتاب‪ ،‬والمؤلف والمكتوب‪ ،‬والقارئ والكاتب‪،‬‬
   ‫المواضع اللاهبة في القصة (وهي دائ ًما مفاصلها‪:‬‬           ‫وهكذا في حالة بحث دائم‪ .‬وتجد تجسيدها في‬
‫ما يسير بالكشف عن اللغز أو المصير قدما»‪ :‬فنحن‬
    ‫نتخطى الوصف والشرح والتأملات والمحادثات‬           ‫مجاوزة الصدوع النصية‪ ،‬والانقطاعات‪ ،‬والفجوات‪،‬‬
‫دون عقاب نتعرض له «فلا أحد يرانا» فنكون حينئذ‬              ‫للشروع في القراءة‪ /‬اللذة‪ ،‬يقول‪« :‬حالة دقيقة‬
  ‫أشبه بمتفرج في ملهى ليلي يعتلي الخشبة ويعجل‬
 ‫بتعرية الراقصة خال ًعا ثيابها في دقة وخفة‪ ،‬لكن في‬      ‫ج ًّدا من حالات الخطاب لا تكاد تطاق‪ :‬حيث تكون‬
                                                      ‫الصبغة الحكائية مفككة وتبقى القصة مع ذلك قابلة‬
                                     ‫ترتيب»(‪.)31‬‬
      ‫هناك نظامان للقراءة لدى بارت؛ قراءة تذهب‬                                            ‫للقراءة»(‪.)30‬‬
 ‫رأ ًسا إلى مفاصل السرد عثو ًرا على الحيل أو اللغز‪،‬‬   ‫إن بارت في هذه التحليلات يتجاوز لغة النقد القائمة‬
    ‫وتبتعد عن جماليات اللغة‪ ،‬ورواغها‪ ،‬وإبداعيتها‬
  ‫الأصيلة‪ ،‬وقراءة أخرى‪ ،‬لا تترك أي تفصيل دون‬           ‫حينئذ‪ ،‬منفت ًحا على خطاب إبداعي جديد يبدد فكرة‬
 ‫عناية‪ ،‬وفحص‪ ،‬بل عكوف وتلذذ والتصاق‪ ،‬القراءة‬              ‫الالتزام الأيديولوجي ومنفت ًحا على فكرة أخرى‬
   ‫الأولى هي منطق المتعة والقراءة الراسخة المعتادة‬
  ‫التي تناسب النصوص الكلاسيكية‪ ،‬أما النصوص‬            ‫للالتزام مفادها الالتزام هو التزام بالكتابة ومنطقها‬
  ‫الحديثة فتناسبها القراءة الثانية‪ ،‬التي لا تغفل أي‬        ‫ورواغها وجسدها الذي ينبغي أن يثير المتلقي‪،‬‬
‫شيء فيها‪ ،‬إن الجمال يكمن في كل تفصيل وانقطاع‬
‫ومفارقة‪ .‬ويرى بارت صعوبة عكس القراءة بمعنى‬             ‫حين إذن يتناسل مفهوم اللذة الجمالي من الكتاب‪-‬‬
   ‫قراءة النص الكلاسيكي بالقراءة الثانية ففي هذه‬        ‫المكتوب أو النص ومغامرته إلى نطاق المتلقي ولذة‬
      ‫الحالة يصير معت ًما مبه ًما‪« ،‬تمهلوا عند قراءة‬     ‫القراءة‪ ،‬إننا هنا إزاء عقد ما أن يتم تصوره حتى‬
   ‫رواية لزولا‪ ،‬اقرؤوا كل شيء فيها‪ ،‬فسوف يقع‬             ‫تتساقط كل أوراق الكتاب لتعلن جوهره في شيء‬
   ‫الكتاب من يدكم‪ ،‬واسرعوا في قراءة نص حديث‪،‬‬            ‫واحد هو (اللذة) الملازمة في الوقت نفسه للصمت‬
‫اقرؤوا منه شذرات‪ ،‬فسوف يغدو هذا النص معت ًما‪،‬‬
‫ويسقط حقه في أن يمدكم باللذة‪ :‬تريدون أن يحدث‬              ‫الأيديولوجي حتى في أكثر النصوص كلاسيكية‬
      ‫شيء ولا يحدث؛ لأن ما يحدث للغة لا يحدث‬            ‫وتقليدية‪« .‬على أن السرد الأكثر كلاسيكية «رواية‬
    ‫للخطاب‪ .‬وإذا أردنا أن نقرأ مؤلفي اليوم‪ ،‬علينا‬        ‫لزولا‪ ،‬لبلزاك‪ ،‬لديكنز‪ ،‬لتولستوي» يحمل في ذاته‬
‫تجنب الالتهام والابتلاع‪ ،‬وتفضيل الارتعاء والحش‬        ‫نو ًعا من الانشطار الخفيف‪ :‬فنحن لا نقرأ كل شيء‬
      ‫المحكم والرجوع إلى متسع الوقت الذي كانت‬         ‫في النص بنفس الحدة‪ ،‬بل إن إيقا ًعا يستقر‪ ،‬لامباليًا‪،‬‬
  ‫تمارس فيه القراءات القديمة‪ :‬علينا أن نكون قراء‬         ‫لا يولي احترا ًما لكلية النص‪ .‬ويقودنا نهم المعرفة‬

                             ‫أرستوقراطيين»(‪.)32‬‬

    ‫‪-7‬‬

‫يدرك بارت في كتاباته جمي ًعا أهمية الكتابة بوصفها‬
 ‫تصو ًرا عن علاقة اللغة والإبداع بالواقع والتاريخ‬
     ‫والأيديولوجيا السائدة‪ ،‬ولكنها في نطاق الأدب‬
  ‫تغدو وسيلة لإبراز وعي تاريخي خاص‪ ،‬حتى لو‬
    ‫كانت الكتابة نفسها فع ًل للرفض أو القطيعة أو‬
   14   15   16   17   18   19   20   21   22   23   24