Page 17 - ميريت الثقافية العدد 24 ديسمبر 2020
P. 17

‫‪15‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

   ‫أنه يراه مقاب ًل لمفهوم الأثر (العمل) بمعناه الذي‬    ‫«ولا يمكن لهذه المهمة أن تتم إلا عبر سبيلين‪ ،‬على‬
     ‫شوه وانتهى أمره‪ ،‬فإنه يرى أن مفهوم النص‬            ‫نفس القدر من الجذرية‪ :‬إما بشكلنة مستنفذة‪ ،‬أو‬
     ‫مازال يبحث عن ذاته‪ ،‬ولذا لا يعتقد بارت أنه‬        ‫بكتابة كاملة‪ ،‬بموجب الفرضية ‪-‬والتي ندافع عنها‬
                                                      ‫هنا‪ -‬سيغدو العلم أد ًبا‪ ،‬وذلك بالنظر إلى كون الأدب‬
 ‫يكون تعريف للنص إلا على حساب التعرض للنقد‬               ‫الذي يعرف تشوي ًشا متزاي ًدا للأجناس التقليدية‬
‫الفلسفي للتعريف‪ ،‬ولكن «كل ما في إمكاننا الآن هو‬          ‫(القصيدة‪ ،‬المحكي‪ ،‬النقد‪ ،‬الدراسة) كان هو العلم‬
 ‫أن نعمل على التقريب المجازي لمفهوم النص‪ ،‬أعني‬        ‫ساب ًقا ودائ ًما؛ لأن ما تكشفه العلوم الإنسانية اليوم‬
‫أن نجرد ونفحص ونحصي الاستعارات التي تحوم‬
                                                           ‫من أية طبيعة كان ذلك‪ ..‬قد عرفه الأدب دائ ًما‪،‬‬
                                     ‫حوله»(‪.)24‬‬           ‫والاختلاف الوحيد‪ ،‬هو أنه لم يقله‪ ،‬وإنما كتبه‪.‬‬
   ‫ولذلك فإن الكتابة بوصفها خلخلة وتنا ًّصا تجد‬       ‫وفي مقابل هذه الحقيقة الكاملة للكتابة‪ ،‬تبدو العلوم‬
  ‫تحققها في جسد مفرد متعي وشهوي هو النص‪،‬‬                  ‫الإنسانية التي تكونت في وقت متأخر‪ ،‬على آثار‬
                                                        ‫الوضعية البورجوازية بمثابة التع َّلت التقنية التي‬
     ‫وبالتالي فإن هذا النص لن يكون هو الآخر إلا‬       ‫يتعاطاها مجتمعنا‪ ،‬ليحافظ في ذاته على تخيل حقيقة‬
     ‫تجليًا لنقض سلطة التصنيف‪ ،‬بل يمارس فعل‬             ‫لاهوتية‪ ،‬مستخلصة بروعة وإفراط من اللغة»(‪.)21‬‬
  ‫الخلخلة لقوائم التصنيف الإجناسي‪ ،‬يقول بارت‪:‬‬
  ‫بمجرد أن نخوض ممارسة الكتابة‪ ،‬فإننا سرعان‬                             ‫‪-5‬‬
  ‫ما نكون خارج الأدب بالمعنى البرجوازي للكلمة‪.‬‬
     ‫هذا ما أدعوه ن ًّصا‪ ،‬وأعني ممارسة تهدف إلى‬         ‫لا ينفك مفهوم الكتابة عند بارت عن خلخلة الذات‬
   ‫خلخلة الأجناس الأدبية‪ :‬في النص لا نتعرف على‬           ‫الفاعلة‪ ،‬وتقويضها وتشتيتها‪ ،‬أي بعبارة أوضح‬
     ‫شكل الرواية أو شكل الشعر أو شكل المحاولة‬         ‫عبر نداء بارت الأشهر بموت المؤلف‪ ،‬فوجود المؤلف‬
                                                         ‫بمعناه التجريبي ينتهي منذ طرح الكتاب للتداول‬
                                    ‫النقدية»(‪.)25‬‬       ‫والقراءة‪ ،‬لذلك يقول‪« :‬إنني أذهب إلى القول إنه لا‬
                                                         ‫وجود للمؤلف إلا لحظة الإنتاج وليس قط لحظة‬
    ‫‪-6‬‬                                                    ‫ينتهي الإنتاج»(‪ .)22‬وبانقضاء سلطة المؤلف على‬
                                                       ‫نصه‪ ،‬وعلى المكتوب في دفتي كتاب منسو ًبا له‪ ،‬تبدأ‬
‫إن ما هو جدير بالملاحظة أن رولان بارت في كتابه‬         ‫حيوية الكتابة في ممارسة فعل الخلخلة على المعاني‬
‫(لذة النص) ينطلق من تنظيره لهذا المفهوم اعتما ًدا‬       ‫المسبقة‪ ،‬وانفتاحها في آن‪ ،‬على اللغة‪ ،‬وتعدد مدارج‬
                                                      ‫الإحالة‪ ،‬وعلى الممارسة الإنتاجية لفاعلية العلاقة بين‬
   ‫بشكل يكاد يكون مطل ًقا على النص السردي‪ ،‬أو‬           ‫النصوص‪ ،‬وتداخل الاقتباسات بعي ًدا عن علامتي‬
‫بمعنى أوضح على الرواية‪ ،‬ويستمد أغلب تحليلاته‬             ‫تنصيص‪ ،‬فالكتابة حينئذ «تعني أن نضع أنفسنا‬
                                                         ‫فيما يطلق عليه اليوم التناص‪ ،‬أي أن نضع لغتنا‬
    ‫من عكوف على تحليل لمظاهر التوتر والانقطاع‬             ‫وإنتاجنا الخاص للغة ضمن لا نهائية اللغة»(‪.)23‬‬
  ‫والانزياح والتشتت التي تقدمه نصوص متنوعة‪،‬‬              ‫ويربط بارت الكتابة بمفهوم النص‪ ،‬أي أنه يفرغ‬
                                                        ‫الكتابة من أي نزعة متعالية كلية تجعل منها قالبًا‬
   ‫فتتناسل شروحاته للمفهوم من رحم التعليقات‬           ‫يمكن القبض عليه في صيغة نهائية‪ ،‬أو وصفة قابلة‬
   ‫على روايات متنوعة‪ ،‬يشدها التقاطب الذي يبنيه‬            ‫للتكرار‪ ،‬بل يدمجها داخل مفهوم النص بوصفه‬
   ‫بين الرواية الكلاسيكية والرواية الحديثة‪ ،‬فيقف‬          ‫وحدة منفردة ومتفردة في آن‪ ،‬بل ربما رغبة في‬
‫عند رواية «قوانين» لفليب سولرز‪ ،‬ورواية «كوبرا»‬            ‫رواغ مفهوم النص نفسه من التحديد والتأطير‬
                                                        ‫النهائي‪ ،‬فإنه يجرده من أي تعريف نهائي‪ ،‬فرغم‬
      ‫المكتوبة بالأسبانية للكوبي لسيفيرو ساردي‬
   ‫(التي ترجمها سولرز للفرنسية)‪ ،‬بالإضافة إلى‬
‫الإشارة لروايات للماركيز دو ساد‪ ،‬و جان جنييه‪،‬‬
  ‫وأميل زولا‪ ،‬وماسيل بروست‪ ،‬وفلوبير‪ ،‬وبلزاك‪،‬‬
 ‫وتشارليز ديكنز‪ ،‬وتولستوي‪ ،‬وآلان روب غرييه‪،‬‬

                 ‫وجول فيرن‪ ،‬وستندال وغيرهم‪.‬‬
 ‫ولم يكن وقوف بارت على هذه النصوص الروائية‬
   12   13   14   15   16   17   18   19   20   21   22