Page 76 - ميريت الثقافية العدد 24 ديسمبر 2020
P. 76

‫العـدد ‪24‬‬   ‫‪74‬‬

                                                   ‫ديسمبر ‪٢٠٢٠‬‬

   ‫قدم َّي‪ ،‬يومها لم أطأه‪ ،‬لأنني آمنت بأنك ستبقين‬       ‫لك من سعير أشواقه‪ ،‬وكل أشعاره وقصصه‬
‫لي‪ ،‬مهما قامت بيننا بحار وجبال ومفازات وظنون‬                               ‫وحكاياته هي منك وإليك‪.‬‬

   ‫وثرثرة اعتادها الناس في أغانيهم الشعبية التي‬     ‫كلما اقتربت منك‪ ،‬ابتعدت عنك‪ ،‬كأن كل شيء على‬
    ‫تأست لمن ذهب عنه حبيبه‪ .‬ورغم أنني أخطأت‬            ‫حاله‪ ،‬أين أنت مني؟ وأين أنا منك؟ مسافة بيننا‬
                                                     ‫بوسع الانتظار والحيرة والرغبة والشوق والألم‪،‬‬
     ‫الدرب‪ ،‬فإن شيئًا بقى داخلي يهمس لي دو ًما‪:‬‬
                 ‫‪ -‬هناك طريق لا تعرفه هي فيه‪.‬‬      ‫والزمان الذي تسرب من بين أيدينا‪ ،‬والشباب الذي‬
                                                     ‫عاد إلينا حين التقينا‪ ،‬وليس بوسعه أن يشبعني‪،‬‬
 ‫لكن أ ًّيا من هؤلاء لم يدرك أن الظمأ لا يمحوه كل‬
 ‫ماء الدنيا‪ ،‬والجوع لا تشبعه كل الموائد والأسمطة‬   ‫فأنا لا أريد معك سوى أيام مطيعة‪ ،‬أقول لها‪ :‬قفي‪،‬‬
 ‫الممتدة بما لذ وطاب‪ ،‬فالروح لها قانونها‪ ،‬وهي لا‬      ‫فتقف‪ .‬وأقول لها‪ :‬عودي‪ ،‬فتعود‪ ،‬ثم أعيد الأمر‪،‬‬
                                                       ‫فأقول لها‪ :‬أرجعي إل َّي ما كان فأراها ماثلة بين‬
  ‫ترتوي‪ ،‬بهذا العابر التافه الذي لا مراد له سوى‬                                              ‫يد َّي‪.‬‬
   ‫خدمة الجسد‪ ،‬والأجساد ذاهبة‪ ،‬وتبقى الأرواح‪،‬‬                                    ‫من أنت يا فاتنتي؟‬
 ‫في مطلعها روحك وروحي‪ ،‬فالأرواح التي افترقت‬            ‫أنت الظمأ الذي لا ينتهي‪ .‬الجوع الذي روضت‬
 ‫في الدنيا‪ ،‬وقت أن كان بوسع الجسد أن يكون في‬          ‫نفسي كي تتحمله‪ ،‬الأمل الذي غار في شراييني‪،‬‬
 ‫خدمتها بكامل وسعها‪ ،‬لا يمكنها إلا أن تجعل من‬         ‫لكنه لا يكف عن طرق باب قلبي‪ ،‬المستحيل الذي‬
 ‫الجسد خادمة لها‪ ،‬في عالم آخر‪ ،‬تعلو فيه الأرواح‬         ‫أسعى خلفه‪ ،‬راضيًا بنثاره الذي يتساقط فوق‬
                                                       ‫رأسي وأنا واقف عند غربتي‪ ،‬على نوافذ الأيام‪،‬‬
                                  ‫على الأجساد‪.‬‬                     ‫وأبواب الرحيل إلى العشق الأبدي‪.‬‬
   ‫يا أيتها التي راحت مني وقت أن كنت في حاجة‬           ‫يا أيتها التي أضنتني وأوجعتني‪ ،‬وتركتني نهبًا‬
                                                     ‫لأيامي‪ ،‬ليس بوسعي أن أبرحك‪ .‬واقف أنا عندك‪،‬‬
          ‫ماسة إليها‪ ،‬أريد أن أقول لك الآن شيئًا‪:‬‬       ‫أنظر إلى طرف أصبعك‪ ،‬فإن أشار إلى مخدعك‬
  ‫‪ -‬يوم أن كنت أقرأ هذا‪ ،‬لم أدركه‪ ،‬وكنت أحسب‬          ‫ستستيقظ في جسدي كل فتوة وقوة‪ ،‬وإن أشار‬
   ‫أنني حين أسمع صوت لذة حبيبي وهو يتمطى‬               ‫إلى شرفتك‪ ،‬سأستعيد كل المساءات العذبة التي‬
                                                       ‫رحلت عني‪ ،‬وأنا أكتب على صفحة سمائها التي‬
     ‫فر ًحا في رحاب شبقي وقدرتي ولذتي‪ ،‬فإنني‬             ‫لا تغرب أب ًدا‪ ،‬كل ما أردت أن أقوله لك‪ ،‬وثقل‬
‫سأشبع وأنال منه كل ما سعيت إليه‪ .‬لكنني أيقنت‬
                                                   ‫لساني‪ ،‬وإن أشار إلى المقعد القديم‪ ،‬سأجلس خلفك‪،‬‬
           ‫أن جوع الروح لا يشبعه سوى الموت‪.‬‬           ‫أراقب إيماءاتك وابتساماتك وإشاراتك وحركاتك‬
‫أنا أتوق إلى الموت‪ ،‬كي أنعتق من عشقك يا فاتنتي‪،‬‬        ‫وسكناتك‪ ،‬وأمنح نفسي أم ًل‪ ،‬بأنني سأواجهك‬
                                                                ‫هناك في الشارع العريض‪ ،‬وأقول لك‪:‬‬
  ‫افسحي لي الطريق إلى النهاية‪ ،‬ولا تعديني بأنني‬                                  ‫‪ -‬لا تكوني إلا لي‪.‬‬
 ‫سألقاك هناك‪ ،‬فهذا إن تم لا أعتقد أنه سيشبعني‪،‬‬                       ‫تخجلين يومها مني‪ ،‬فأقول لك‪:‬‬
                                                         ‫‪ -‬الله في كل مكان‪ ،‬وأنا في مكاني‪ .‬لكن شيئًا‬
    ‫فجوعي لك‪ ،‬لا يشبعه شيء‪ ،‬إلا إذا كان الله قد‬
    ‫ادخر لنا ما يذيب كل شيء في سبيل الاكتمال‪.‬‬      ‫يجذبك إلى مكان آخر‪ ،‬كي تعرفي مكاني‪ ،‬والله الذي‬
 ‫أنا العبد الصغير الفقير ليس بوسعه أن يعرف أو‬         ‫يحل في كل الأمكنة‪ ،‬يعرف مكاننا سو ًّيا‪ ،‬منذ أن‬
   ‫يدرك ما يدخره الله لنا‪ ،‬لكن لأني أعرف أن الله‬
  ‫كامل مكتمل‪ ،‬أبدي أزلي‪ ،‬أول بلا ابتداء ولا شيء‬    ‫افترقنا وأهداه لنا‪ ،‬فامتثلي لمشيئته كي يلتقي الزمان‬
‫قبله‪ ،‬وآخر بلا انتهاء ولا شيء بعده‪ ،‬فإني أعرف‪،‬‬                                  ‫بالمكان‪ ،‬ويرانا م ًعا‪.‬‬
‫ولا أشك في هذا‪ ،‬أنه سيمنحنا الاكتمال هناك‪ ،‬ذلك‬
 ‫الذي سعينا إليه في دنيا الناس بالمجاهدة والأنس‪،‬‬    ‫ما الذي جعلني أخطئ العنوان‪ ،‬حين سرت خلفك‬
   ‫والقبض والبسط‪ ،‬والحضور والغياب ‪ ،‬لكنه لم‬            ‫وانتظرتك في شارع غير الذي تسلكينه‪ ،‬وسقط‬

                                        ‫يحدث‪.‬‬       ‫عن كتف َّي دثاري المستعار‪ ،‬ورأيت أملي يتمطأ أمام‬
    ‫في رحاب ذي الرحمة والحب والجلال سأراك‬
  ‫واقفة هناك عند باب الفردوس في انتظاري‪ ،‬وفي‬
‫عينيك شيء غير الذي انتظرته‪ ،‬وفي صوتك الرخيم‬
   71   72   73   74   75   76   77   78   79   80   81