Page 81 - ميريت الثقافية العدد 24 ديسمبر 2020
P. 81
79 إبداع ومبدعون
قصــة
ودموعك تسح على خديك أحجا ًرا مسنونة ،أراها عنهن .المرأة أقرب إلى الرهان الأول ،واللعبة الأولى،
ترتفع وتصطدم بجباهنا جمي ًعا ،لتقول لنا: الغواية ،اللذة ،التعب ،التبتل الافتتان ،الوصول،
-أنتم راحلون مثلي. إنها أم الذين كانوا ،وهؤلاء الذين نراهم ،وأولئك
أيتها التي رأتني وقت أن كنت مخفيًّا في عالم الذين يأتون ،ويهدون إلى الحياة ما لا نعرف ،ولا
الضياع ،تائها في المدينة ،وعلى مفترق الأيام .وقالت يمكننا مقابلتهم ،وهي أم الافتتنان ،حيث معها
لي: السعار والاشتعال والملامسة ،وبها تحل الراحة،
-جئت إليك. وينفسح الطريق إلى تعب جديد ،إنه ذلك الذي يأتي
ووصفت لي المكان ،ووجوه الصحاب ،والمقام ،وأنت إلى الدنيا ،فاللائي منهن يدركن هذا يختصرن زما ًنا
التي لم تأت أب ًدا إلى حيث حللت وأقمت ،ومن يومها
اعترفت لك بالولاية. ومكا ًنا ،ليحيا العشق.
يا أمي التي لم يضمني رحمها ،لكني خرجت من معها وبها يفرغ الجسد من دنيويته فتستيقظ
نفسها ،التي هي فوق أي لحم ودم .غناؤك لا يزال
يطربني ،وحجرك يسعني ،وكلماتك التي كانت الروح ،وهذا ما لا يدركه أصحاب الشهوات
تداعب النسائم الطرية حين كنت أنام مطمئنًا، المستعرة لذاتها ،الذي يقف عند غواية المرأة وهي
وتهطل على أذني لتسليني ،ثرثرة تدفعينها بلا سرها البديع ،الذي يتعدى مجرد الجذب إلى الخلود.
حساب ،جعلت الناس يقولون عنك أن كل ما في
قلبك على لسانك ،فأنت كنت تبوحين بكل شيء، ()9
ليس إلى أي أحد ،إنما لأهلك الأقربين .أنا كنت في
مطلعهم حين كنت ألتفط حروفك في صفار العصر أمي أنت رغم أني لم أستقر في رحمك ثانية واحدة،
الكسير ،الذي تبحر فيه الشمس إلى غربتها. لكنني سكنت روحك .لا يمكنني نسيان حدبك
ويلفنا الليل ،أنا للغمام والرماد والغبش الطائر في
فضاء لا أعرف له نهاية ،وأنت منذورة للكلمات عليَّ ،وحكاياتك الصامتة ،وغناؤك العذب الذي كان
الهائمة ،التي لا يمكنها أن تصل إلى سمعك لأن يملأ أذن َّي موسيقى ،تسلسل بها عقيرتك المشبوبة
أعماقك مسكونة بما هو أجمل.
أيتها التي رحلت ،مدي كفيك لي لتجعلي الموت يتمهل بالحزن ،دون أن تدري أنت أنني ألتقط حباتها.
قلي ًل ،أنت معي ،وأنا معك ،فجودي عليَّ من هناك كنت مولعة بالترديد الغارق في الأسى ،وأنا
بشيء مما أنت فيه ،فأنا لم أنته بعد مما أريد قوله،
أو كتابته ،بينما أرى كثيرين حولي معلقين بأهداف مجذوب إلى الإنصات إليك ،وأنت وأنا في خلاء ،لا
يجرحه شيء سوى النسائم الطرية ،والعصافير
حروفي. السابحة فوق خضرة ممتدة حتى المدى ،وتحت
الحروف لك أنت أيتها التي لم تعرف أي حرف من زرقة سماء صافية ،تستر ظهو ًرا منحنية وسط
تلك التي كانوا يعلموننا إياها في المدارس ،لكنك الحقول.
أدركت المعاني البعيدة ،التي همس لك ذات يوم من كنت تسكتين فجأة ،فألح عليك أن تعودي إلى الغناء
لا نراه ولا نسمعه ،ويملؤنا وجوده ،فأدركت أن فتفعلي ،لأن محصولك لم يكن ينفد أب ًدا ،آتي إليك
أجساد البشر إلى ذهاب ،وتبقى أرواحهم ،والغناء. من إنصاتك إلى المذياع ،وأغاني النسوة في أفراحنا
القليلة.
حجرك كان مخدعي ،تهدهديني عليه دون أن تدري
أنه قد صار مقامي إلى الأبد ،منذ أن رأيتك تجلسين
في وجه الريح ،وحتى اللحظة التي رأيتك فيها
تتمددين على سرير النهاية في مستشفى بسيط،