Page 84 - ميريت الثقافية العدد 24 ديسمبر 2020
P. 84

‫العـدد ‪24‬‬   ‫‪82‬‬

                                                       ‫ديسمبر ‪٢٠٢٠‬‬

  ‫ذلك‪ ،‬كانت تعرف تما ًما لماذا أنا في الممر الواصل‪.‬‬        ‫بمخالب القطط‪ ،‬فسيجدني متجمدة من الخوف‬
‫أخرج ُت رز ًما من الأغلفة البنية‪ ،‬مكتو ًبا عليها اسمه‬              ‫تحت الضوء الساطع‪ ،‬كضوء مشرحة‪.‬‬
‫وعنوانه بعناية‪ ،‬وقلت لها بأني أوصل هذه الدعوات‬
                                                            ‫ليس أمامي إلا المضي قد ًما‪ ،‬صعد ُت الدرج إلى‬
      ‫والمشاريع باعتباري مندوبة لشركة سياحية‬                  ‫الطابق الرابع‪ ،‬بدأت أشعر بالدوار‪ ،‬وبرائحة‬
     ‫إلى النحات في الطابق الرابع‪ ،‬ترغب شركتنا في‬
 ‫الاتفاق معه لبيع بعض أعماله إلى السياح‪ .‬أمسكت‬           ‫عطونة في الجو‪ ،‬لكن الطابق الرابع لم يقفل رواقه‬
   ‫المرأة الأغلفة بيديها الاثنتين وأخذت تقلبها كأنما‬       ‫على الشقق الأربع‪ ،‬بل كان في آخره ممر طويل‬
 ‫اسمها هي المكتوب عليها‪ ،‬شكك ُت أنها ستف ّضها في‬
  ‫النهاية‪ ،‬أخذت أتأملها‪ ،‬كانت تشبه تما ًما معلماتي‬       ‫يضيئه مصباح أزرق‪ ،‬قد يكون الوقت نها ًرا‪ ،‬لكن‬
                                                        ‫حياتي كلها تعلقت الآن بهذا الضوء النحيل الأزرق‬
       ‫في المدرسة‪ ،‬بالقميص الحليبي المش ّجر المبقع‬
     ‫بالعرق تحت الإبطين‪ ،‬والتنورة البنية الواسعة‬           ‫في الممر الواصل‪ ،‬أقل من عشرين خطوة وأكون‬
    ‫التي ظهرت حبيبات البِلى وطول الاستخدام على‬              ‫في القسم الصحيح من المبنى‪ ،‬وقريبة ج ًّدا من‬
     ‫جانبيها‪ ،‬والحجاب الأبيض المعقود بعناية رغم‬
    ‫رثاثته‪ ،‬وكانت تنتعل خ ًّفا مفتو ًحا‪ ،‬لم أعرف إن‬      ‫حبيبي‪ ،‬وسأعرف بابه على الفور‪ ،‬ليس لأن قلبي‬
 ‫كان بيتيًّا أو للخروج‪ ،‬ولم أستطع تحديد إن كانت‬          ‫دليلي‪ ،‬فقلبي كان أعمى على الدوام‪ ،‬وإنما لأن بابه‬
‫تزور جارتها مث ًل في نفس البناية‪ ،‬أم ستذهب فو ًرا‬        ‫الخشبي منحوت بيديه اللتين تنأيان عن البقاء في‬
   ‫إلى مدرستها‪ ،‬فقد ق َّر في خيالي أنها مدرسة‪ ،‬ولم‬
    ‫أنتبه إلى أني أنهيت المدرسة منذ سنوات طويلة‬                                   ‫منقار البجعة الضخم‪.‬‬
     ‫ج ًّدا والأرجح أن المعلمات لم يعدن يلبسن على‬          ‫سأدق باب بيته بقبضتي كما طرق باب روحي‬
  ‫هذه الشاكلة‪ .‬أعادت لي أوراقي بصمت فدسس ُتها‬             ‫بقبضته‪ ،‬وحين يفتح لي سأفرح‪ ،‬بتدرج الدهشة‬
    ‫في الحقيبة‪ ،‬ولكنها لم تتحرك‪ ،‬نظرت إل َّي بحرية‬       ‫وعدم التصديق في عينيه كما تتدرج ألوانها‪ ،‬كنت‬
     ‫من رأسي حتى قدمي وكأنها تقيِّم «مشروعي‬             ‫أمازحه بالقول ألا لون ثابت لعينيه‪ ،‬فيقول إن لو ًنا‬
   ‫السياحي»‪ ،‬همهم ُت بشيء ما على سبيل الوداع‪،‬‬             ‫ما‪ ،‬درجة من البني ربما‪ ،‬كانت لهما في طفولته‪،‬‬
 ‫ولكن المرأة كانت تملك كل الوقت في العالم‪ ،‬وشقة‬         ‫لكن الألوان تحولت بعد ذلك من كثر ما حدق بهما‬
     ‫في هذه البناية‪ ،‬وحقو ًقا‪ ،‬وازداد وجهها امتلا ًء‪،‬‬   ‫في الدنيا‪ .‬حين يفتح لي سيفرح‪ ،‬وسيفلت من يديه‬
   ‫كأنها أن َهت للتو وجبتها المفضلة‪ ،‬ولم يب َق إلا أن‬   ‫قصاصات الأقمشة التي يصنع منها وسادة ربما‪،‬‬
     ‫يسيل الحليب من صدرها ويشكل بقعتين على‬              ‫أو دمية‪ ،‬أو مقع ًدا‪ .‬حين يفتح لي سنفرح‪ ،‬وسيطير‬
 ‫القميص المشجر لتصبح أبلة سناء معلمة الحساب‬            ‫بالون الحارس مع فقاعات علكته وتهرب كل القطط‪.‬‬
                                                          ‫أغمض ُت عيني وأنا أتنفس بعمق‪ ،‬لحظة وحسب‪،‬‬
                                   ‫في الإعدادي‪.‬‬          ‫ولكن حين فتحتهما رأيت امرأة تسير بمواجهتي‪،‬‬
 ‫اقتر َح ْت بصوت عادي ج ًّدا‪ ،‬وبنبرة طبيعية ج ًّدا أن‬    ‫تقلصت شفتاي في شبه ابتسامة وحاولت إفساح‬
                                                            ‫الطريق لها في الممر الضيق‪ ،‬ولكن المرأة‪ ،‬بوجه‬
   ‫ترافقني‪ ،‬شكرتها بصوت جاف وبنبرة مرتبكة‪،‬‬                ‫طافح‪ ،‬لا أدري بالبِشر أم بالتحفز‪ ،‬وقفت أمامي‬
  ‫فأص ّرت على اقتراحها‪« ،‬سأري ِك الطريق من هنا»‪،‬‬
  ‫فقل ُت بأني أعرف الطريق‪ ،‬ولكن لم يب ُد عليها أنها‬           ‫مباشرة وس ّدت الطريق‪ .‬قلت‪ :‬صباح الخير‪،‬‬
   ‫سمعتني‪ ،‬كأنما كل ما أقوله يبتلعه الظل الأزرق‬              ‫ضحكت‪ :‬مساء النور‪ .‬همم ُت بالحركة‪ ،‬كيفما‬
                                                          ‫اتفق‪ ،‬ولكن المرأة الواقفة في ظل المصباح الأزرق‬
    ‫قبل أن يصل إليها‪ ،‬ابتسمت لي‪ ،‬ضحكت تقريبًا‬                ‫لم تتزحزح‪ ،‬سألتني‪ :‬أن ِت لست من هنا‪ ،‬عمن‬
   ‫ولاحت أسنانها قوية‪ ،‬أرد ُت الاستنجاد بحبيبي‪،‬‬            ‫تبحثين؟ ج َّف حلقي‪ ،‬فحبيبي يعيش وحي ًدا‪ ،‬ولا‬
                                                            ‫بد أن باقي السكان يعلمون بوحدته وانقطاعه‬
     ‫رغب ُت في أن ينقذني من الحصار‪ ،‬ولكني كنت‬                ‫عن أي أقارب‪ ،‬تذكر ُت الحجج‪ ،‬فأنزلت حقيبة‬
  ‫أعلم أنه عاجز عن إنقاذ نفسه‪ ،‬فض ًل عن إنقاذي‪.‬‬           ‫ظهري السوداء الرياضية‪ ،‬وفتحتها‪ ،‬والمرأة التي‬
  ‫قلت لها‪« :‬لا بأس يا أبلة سناء ربما ليس موجو ًدا‬        ‫لا تبدو على أي عجلة من أمرها تنظر إل ّي‪ُ ،‬خيِّل إل ّي‬
                                                           ‫أنها تبتسم‪ ،‬وأنها تقيِّم مظهري‪ ،‬لا‪ ،‬بل أكثر من‬
   79   80   81   82   83   84   85   86   87   88   89