Page 88 - ميريت الثقافية العدد 24 ديسمبر 2020
P. 88
العـدد 24 86
ديسمبر ٢٠٢٠
إلى حين ثم د ّبت فيه الحياة .على المقاعد العمومية المقادير بالخبر اليقين ،وتم ّوج الماء من جديد وأسفر
القريبة جلست إمراة غربيّة شقراء ،في الأربعينات عن جسدين منهكين .د ّوت زعقة نهائيّة فاترة أطلقتها
من عمرها ،ذات عينين ب ّراقتين كعيون الهررة ونمش البجعة ال ّصغيرة البيضاء ،وكان ال ّدم القاني يسيل على
ير ّقط خديها كنمش بيض الس ّمان ،وبجوارها زوجها جانبي عنقها المُرتخي ،وحين كانت ال ّسوداء تستعيد
العربي بشاربيه الكثّين وعينيه الزائغتين .ب َدا ال ّرجل طاقتها على ال ُعدوان ،جاءت الحركة ال ُف ْجئيّة من البجعة
ُمنه ًكا كأ ّنه مريض وكان ُيرافقهم شيخ غرب ّي ُمس ّن ال ّصريعة التي هوت ُمتع ّمدة بثقلها صوب القاع ،كأ ّنما
يمازح فتاة ريفيّة رعناء لم تتخط العاشرة ،تبدو
كخادمة صغيرة وهو يخرج لها لسانه المُتغضن ،طالبًا تقوم بفعل انتحاري! فالتوى ُعنق المُهيمنة بدوره
صوب المجهول.
منها أن تك ّرر ما يلفظ وينخرط
في موجة من ال ّضحك، غاصتا ثانية في حركة ثقيلة ح ّل في إثرها سكون
ُمريبُ ،مشبع برائحة الموت وما لبثت البجعة ال ّسوداء
تصيبه بأزمة ر ْبو حا ّدة.
ظل صراع البجعتين أن طفت وحيدة على و ْجه الماء وخ ّفقت بجناحيها
الكبيرين ،و ُعنقها الطويل ُمتسامق في الفضاء ،وعيناها
اللامتكافئ عال ًقا بذهنه
فلم ينتبه لشيء مما يدور طائشتان من ال ّرعب ،وأطلقت زعقات ُمد ّوية مزه ّوة
برقصة النّصر .ساد ال ّصمت وأطبق على المكان وأعقبه
حوله بسبب قلقه الجلي نعيب مشؤوم لغراب تدلى من أسلاك الكهرباء ،وأمعن
الذي يدفعه لرؤية الواقع في تمثيل دور المص ُعوق ،ل ُيخادع بظله ُمتأملي ذلك الماء
هبا ًء منثو ًراُ ،متصيّدا الآسن ،وبدا كما لو أ ّن ال ُبحيرة الواجمة ت ُه ّم أن ت ْفت ّر
كعادته أسرا ًبا من الطيوف عن بسمة عريضة ساخرة ،و ُسمع في الأرجاء صوت
قهقهات شيطانيّة لا ُيعلم مصدرها ،وخطر ببال هاشم
أ ّن البجعة المُخادعة المُتماوتة كانت تواصل حياتها
الغريبة سابحة في ُعمق ال ّطميُ ،ملاقية لعنة المصير
ذاته الذي يعيشه «كارون» ملاح الأساطير التائه في
العالم ال ُّسفليُ ،مج ّد ًفا في قرارة نهر الجحيم للخلاص
من خطاياه.
ُمنذ تاريخ تلك الوقائع الغريبة ،كلما جلس هاشم
على أطراف ال ُبحيرة إلا ورآها ت ُموج بأ ْسراب الغربان
تنساب سابحة في الماء ،وحين يمعن ببصره مليًّا
ويف ُرك عينيه ويقترب من ال ّضفاف ،كانت هيئة تلك
الكائنات المُوحشة تتح ّول إلى إو ّزات وبجعات ،كأ ّنها
تتف ّرس فيه وهي ُت ْخفي لمحة من التّهكم والاستخفاف،
و ُتصدر تكتكات آليّة خفيّة كأ ّنما هي ُدمى وألعاب
ُمز ّيفة ،لك ّن خاط ًرا ما يقول له:
-إ ّن البجعة المغدورة ستنهض يو ًما من مجثمها
مثل عنقاء ال ّرماد من اللهيب ولسوف تكنس ال ُبحيرة
الهادئة من لعنة هذه الغربان المن ُحوسة وتلك البجعة
ال ّسوداء المُعتدية!
تفترش بعض العائلات البدو ّية ال ُعشب وهي ُتراقب
هذه المشاهد العجيبة وأصوات ال ّصبية النّزقة تملأ
الكون صيا ًحا ،وتتد ّفق كشريط سينمائ ّي تم تعطيله