Page 90 - ميريت الثقافية العدد 24 ديسمبر 2020
P. 90
العـدد 24 88
ديسمبر ٢٠٢٠
همس وهو يتأ ّملها: التي شرعت يله ُج شار ًحا لذاته قدومها قبل ُغسل .ظ ّل
-يالها من جوهرة خرافيّة. كلا ًما من الضائعة ،فقالت له الأرواح عن في الثّرثرة
فر ّدت ال ّصبيّة قائلة: ال ّدقة وال ُعمق ،بحيث أح ّس كأ ّن رو ًحا أخرى تتكلم
-إ ّنها قوقعة ال ّشمس. على شفتيه .لم يكن يؤمن بتناسخ الأرواح كما طالع
في المُعتقدات الهندوسيّة وإ ّنما كانت له عقيدة ُمختلفة،
وجثت الفتاة على ركبتيها في ُمحاولة لاستدراج تزعم أ ّن مضمون المعاني ال ّشعرية يتكثف كالنّدى
ال ُجرو ،ظلت تداوره من كل الجهات .خفض ال ّرجل وال ّضباب ليتولى في الختام خلق كائن حي ،يص ّوره
نظراته ُمتأم ًل تلك الودعة ،شاع ًرا ببرودة ملاستها الخالق استجابة لأمنيات شعر ّية خالصة.
في كفه وحين رفع بصره ُم ْستطل ًعا لم يكن للفتاة ولا لم يتمكن من صرف بصره عن ُنور ُمحيّاها وقد
للعائلة أي وجود في تلك الأ ْرجاء ،فضغط يده على بدا كل شيء سواها في هذا الكون أجوف وغار ًقا في
تلك الهد ّية البحر ّية التي أنست بحرارة يده ،وفتحها
يتأمل جمالها اللافت ويش ّم رائحتها ،ليرى إن كانت ل ّجة من الفراغ .كانت تنبس بكلمات قليلة ف ُيبدي لها
هي الأخرى ستزول! فعل ذلك ب ُسرعة فائقة وكأ ّنما والداها وج ّدها خضو ًعا واحترا ًما عجيبين ،تتكلم
قام به خارج حدود ال ّزمن ،يعتريه شعور بالضياع
بوثوق وطراوة بر ُعم لا يزال غار ًقا في قطن الخلق،
وهو يفتش في كل صوب عن أيقونته الفريدة .سار لكنّها تنطق بوضوح زهرة يانعة وتهمس بلين
مشفوع بنظرة قاطعة ،كتلك التي ُيلقي بها ول ّي عه ٍد
في كل الاتجاهات وهو يهرول ويعود أدراجه ليأخذ صغير أوامره على حاشية من العقلاء فينصتون إليه
وجهة ثانية ،وقد لمح العائلة تمتطي سيارة فخمة، خاشعين ،لا خشية ورهبة بل قناعة وإجلا ًل .م ّرت
فعاجل في البحث عن سيارة «تاكسي» ،وحين وجدها
لم يكن يعرف ما يقول لل ّسائق الذي أبدى ريبة في تعدو إلى أطراف البحيرة وابتعدت وأمعنت في البعد..
أمره .حاول طمأنته وهو يأمره بتتبع هدفه ويختلق
وكان الشيخ يناديها بصوت عال ميراي ميراي ..فلا
له المعاذير ،وحين دفع الأجرة وأجزل له العطاء ونزل تجيب ،وتلتف إليه ناظرة في صمت ،فيغفل عنها في
حوار مع أبويها ،وقد ُشبّه لهاشم أ ّنه سمع أحدهم
في المفترق حيث تفضي الأزقة إلى وجهات مسدودة.
تبخرت ال ّسيارة وهدير المُحرك وظل صوت الطفلة
ينطق بكلمة «شارلوت» ،وقد هام عقله لثوان خلف
يأتي ُمترد ًدا من أفنية إحدى الفيلات العديدة .تف ّرس أبطال رواياته ..ثم طفق يرقبها وهي تداعب كلبًا
في اليافطة التي تحوي اسم مالك المنزل وهو ُير ّدد: صغي ًرا من نوع الكانيش ،تتهزهز جدائله وهو يلف
« -في َّل عبد ال ّرحمان ،في َّل عبد ال ّرحمان». ويدور وقد تحلق حوله ثلة من ال ّصبية المُش ّردين
دون أن يكون على يقين بأ ّنه المسكن المنشود ،ومكث ُيعابثونه وي ْستغر ُبون هيئته الشبيهة بحمل وديع،
في المكان لبرهة علّه ي ْستوضح جلية وتلك القذارة التي تكسو فروته وقد أمسكه صب ّي
ثم عاد الأمر، أدراجه إلى غرفته الواجمة في وسط منهم وجرحه بمشرط صغير في أذنه ،فانطلق يعدو
ظ ّل غار ًقا المدينة.
في شروده كامل النهار وك ّفه ُمطبقة على تلك الودعة مهرو ًل وصوت عوائه ُيطبّق المكان والفتاة في إثره
كأ ّنه طفل صغير يحتفظ بلعبة ،جلس قبالة الشبّاك ُتحاول الإمساك به والتهوين عليه ،حتى انتهى إلى
المُش ّرع في غرفة صغيرة بالطابق الثاني تقع في قلب
العاصمة ،تطل على الأنهج وال ّساحات الكبرى ،على مجلسه واند َّس ُمختبئًا بين قدميه وهو يع ُبر بين ُهما
ملك صديق له ،تع ّود أن يأوي إليها كلما ق ّضى بضعة ُمتم ّس ًحا جيئة وذها ًبا ،وقد ترك في سرواله بقعة
أيام في ُمتابعة النشاطات الفنّية ،يعتريه شعور ُمر ّوع
صغيرة من ال ّدم .لحقت به ميراي ووقفت أمامه وهي
بالخواء وهو ُير ّد ُد في أعماقه:
ُ -مز ّيف كل ما يمكن أن تقع عليه عينك في أزقة تقوم بحركات م ْسرحيّة كالتي يقوم بها الحيوان تما ًما
المدينة ،يبدو كل شيء ُمز ّي ًفا ،حتى الأمطار التي ته ّل وكأ ّنها ظله .تجلى لعين ال ّرسام عن كثب ذلك الجمال
من ال ّسماء تبدو كدموع عاهرة وهي تقطر من ال ّزهور الإلهي البهيج ،فغشيه ُنور ساطع ُيعشي ال ُعيون.
المُتدلية من الأ ُصص الف ّخارية ،حيث الزواج الأبدي كانت البنت تبحث قلقة في جيوب معطفها وكأ ّنها
ترغب في تقديم طعام للجرو ،وأخرجت ودعة كبيرة
خرافيّة وتأملت هاشم ُمبتسمة ووضعتها في يده.