Page 91 - ميريت الثقافية العدد 24 ديسمبر 2020
P. 91

‫‪89‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

     ‫تك ّررت زوراته لهذه الأوكار الشيطانية وهذا هو‬          ‫بين ال ّرخام والبلور الشفيف وطاقات الماس وعقود‬
    ‫الاسم الذي يحلو له أن يطلقه على هذا التطاول في‬        ‫ال ّذهب‪ ،‬فما من شيء على فطرته غير الح ّب في عيون‬
‫ال ُبنيان وقد استعاره من كاتبه الطارقي المُفضل‪ ،‬نديم‬
  ‫خمرته إبراهيم الكوني‪ ،‬عزم على مغادرة هذه المدينة‬          ‫النسوة العابرات‪ ،‬يستجمع ضياعه تحت مساحيق‬
                                                         ‫الشفاه والكلمات المُغازلة‪ ،‬فيغور المعدن النفيس شعا ًعا‬
     ‫وقفل عند ال ّصباح راجعا إلى قريته التي أ ْسماها‬
                                 ‫جوهرة الشمس‪.‬‬                        ‫تحت رجع الابتهالات التي تضيع ُسدى‪.‬‬
                                                              ‫يه ّل من الشارع صوت أب ّح فيه ُشذور حشرجة‬
‫يقع متجر هاشم في جناح ال ّصناعات التقليدية بالمنطقة‬       ‫مبثوثة في مقطع النّغم‪ ،‬كما يقول ابن ال ّرومي‪ ،‬لأغنية‬
  ‫ال ّسياحيّة ويحوي مجموعة من اللوحات الفنّية التي‬       ‫رخيصة وهو يتأ ّمل شارد ال ّذهن حركة الحياة ال ّرتيبة‬
 ‫ُتج ّسد وجوه البدويات ومياه الينابيع ودفء الخيام‪.‬‬       ‫فيبدو الشبّاك ُمحنّ ًطا في مدى بصيرته ال ّساهمة‪ ،‬وهذا‬
   ‫يشاركه العرض رسامون غربيون‪ ،‬يقيمون بصفة‬                ‫ال ّسجن الذي يحتويه ضيّق وإن اتسع‪ ،‬بداخله خيول‬
    ‫ظرفيّة في هذه القرية الوادعة‪ ،‬وما يزيد عن طاقة‬       ‫مقيدة تقطر من رؤوس أنامله على البلور‪ ،‬وهذا الهواء‬
    ‫متجره يسافر به إلى المدينة‪ ،‬أو ُيرسله إلى صديقه‬          ‫الخاوي المُحتضر يلفه ويجتاحه كح ّمى تتقلب بين‬
 ‫لعرضه أو بيعه هناك‪ .‬يعشق النقد التشكيلي‪ ،‬لكنّه لا‬           ‫ثلج ولهيب‪ ،‬وعيناه مفتوحتان على ال ّدوام تصلان‬
   ‫يرتزق من المقالات النّقدية التي يتناولها على سبيل‬          ‫إلى فضاءات الآفاق المسدودة بالأشجار والمباني‪،‬‬
    ‫الهواية‪ ،‬يزور المعارض لل ُمتعة ويتج ّول في قاعات‬     ‫ُمتطاولة الأعناق‪ ،‬وهي تس ُّد مهب ال ّريح من كل جانب‪.‬‬
   ‫ال ّرسم الشهيرة‪ ،‬وحين يروق له عمل رسام بعينه‪،‬‬          ‫خلق كثير ي ُموج في مسرح من ال ّضياع المُ ّصور تحت‬
    ‫يكتب عنه مقالات صحفية‪ ،‬أو يض ّمنها في الكراس‬          ‫سماء خاوية‪ ..‬وسيّارات ُم ْسرعة ومجاذيب‪ ..‬وأطفال‬
   ‫الخاص بملاحظات المُعجبين‪ ،‬فالنقد الجمالي هوسه‬            ‫ُمش ّردون يركضون في الشوارع تلاحقهم أصوات‬
    ‫الذي لا ُيشفى‪ ،‬وفي مسيرته النّقد ّية تلك‪ ،‬ج ّدت له‬
  ‫حادثة غريبة يروق له دو ًما أن يتكلم عنها بنوع من‬                                    ‫المكابح في كل ُمفترق‪.‬‬
     ‫ال ُعجب الممزوج بالاستنكار‪ .‬هاهو يتذ ّكر ال ّسيدة‬    ‫تنتقل ح ّمى الحياة الكسيحة إلى داخله في هذه الغرفة‬
  ‫صافيناز تلك ال ّر ّسامة البورجوازية‪ ،‬التي تقيم رفقة‬
  ‫شلّة من المترفات معارض جماعيّة في أفخم القاعات‬            ‫الكئيبة‪ ،‬المُشرفة على تقاطيع المدينة‪ ،‬فيرى بوضوح‬
                                                               ‫تفاصيل قبره البارد الجميل‪ ،‬طلاء عتيق معدني‬
‫بالمدينة والنزل ال ّسياحيّة الفاخرة‪ ،‬وكان هاشم المُعدم‬
    ‫الذي لا يحلم بالعرض في مثل هذه الأمكنة‪ ،‬يتابع‬            ‫البرودة‪ ،‬بلور ُمخادع‪ ،‬تموجات الزينة ذات ال ّروح‬
                                                              ‫الأثرية في شكل قضبان تحرس قبوه الضيّق‪ .‬في‬
  ‫نشاط هذه ال ّسيدة ُمتجاه ًل بقية رفيقاتها اللواتي لا‬    ‫ركن بعيد ربكة ُمكثفة لعربات تتوقف‪ ..‬لنافذة تغلق‪..‬‬
 ‫يرتقين إلى موهبتها الأصيلة في اللعب بال ّريشة‪ ،‬وبث‬           ‫لشبحين يتصافحان تحت سماء ُمص ّفحة بستار‬
  ‫الحياة في الجماد‪ ،‬وقد اعتمدت تقنية الألوان الزيتية‬         ‫رصاص ّي‪ ،‬يظل مشدو ًها خلف نافذته لا يرت ّد إليه‬
‫التي لا ُيحسن استعمالها كما يجب‪ ،‬فكانت تربطه بها‬          ‫بصره‪ُ ،‬مح ّم ًل بالرؤى والخيالات‪ُ ،‬متسائ ًل عن ح ّمى‬
‫مو ّدة نمت مع مرور الأيام‪ ،‬من خلال الجدل الفلسفي‬            ‫الحنين التي ُيشعلها ذلك ال ّصفاء المُتو ّهج في قريته‬
                                                             ‫ذات العيون الجارية وال ّسماء الزرقاء النقيّة‪ ،‬فأي‬
     ‫حول الف ّن‪ ،‬حتى صار ال ّرجل في أعين المُلاحظين‬        ‫ريح بعيدة ترفعه إلى فردوسه المفقود‪ ،‬حيث يتكثف‬
    ‫محسو ًبا عليها‪ ،‬م ّما شجعها أن تقول له ذات يوم‪:‬‬       ‫ال ّضباب ويقطر عند أبسط ه ّزة لأذرع الجريد المُتدلية‬
                                                           ‫فوق ُمنحنى الكثيب‪ .‬كان يفكر في مراتع صباه وفي‬
                              ‫‪ -‬يا هاشم أنت لي‪..‬‬              ‫أصابعه الغ ّضة ال ّصغيرة وهي تلامس ال ّسعفات‬
        ‫فاجأته تلك الكلمة وهو إلى يوم الناس هذا لم‬          ‫وته ّزها في حركة ُمتع ّمدة لرؤية جدول ُمنساب من‬
  ‫ي ْستوعب مغزاها‪ ،‬لكنّه وبشكل تلقائي قذف الجواب‬            ‫حبّات اللؤلؤ المنثور فوق ال ّرمل‪ .‬يهذر فؤاد ال ّرجل‬
   ‫في صمت فارتد في دواخله كرنين النواقيس‪ ،‬فليس‬              ‫القادم من ال ّصحاري بالحنين إلى قريته من صخب‬
   ‫من عادته أن يجرح من يحاوره «أنا لست لك أيتها‬              ‫هذه المدينة الفاجرة بكلمات غامضة وأخرى كأ ّنما‬
      ‫ال ّسيدة الغالية»‪ ،‬أس ّرها في نفسه‪ ،‬لكنّه يعلم أن‬    ‫تتأرجح بين عالمين ُممزقين بين صحو وخدر‪ ،‬كلما‬
   ‫النّساء لا ي ْسمعن مثل تلك الت ّرهات حتى لو صدح‬
   86   87   88   89   90   91   92   93   94   95   96