Page 95 - ميريت الثقافية العدد 24 ديسمبر 2020
P. 95

‫‪93‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

    ‫الوقت يمر سام ًحا لأشعة الشمس أن تخترق‬             ‫َسبّابة ُيمناها‪ ،‬التي تدور حول سبابة يسراها‪ ،‬في‬
‫أفرع شجرة التين أكثر؛ فتكبر مساحة بقع الضوء‬            ‫حركة لا يقطعها سوى النظر في الساعة والالتفات‬

  ‫الساقط على الأرض‪ .‬البستاني يدخل غرفة عامل‬                                               ‫إلى البوابة‪.‬‬
‫البوفيه ويخرج وقد ارتدى ملابس الخروج قاب ًضا‬          ‫عندما يرى البستاني شغف البنت بالزهرة الحمراء‬
                                                       ‫التي قطعها من الحوض يبتسم ويهديها لها‪ ،‬تش ّم‬
            ‫بكفه على ما قطفه من الورود الملونة‪.‬‬        ‫البنت الزهرة الندية ثم تأخذها في حضن صدرها‬
  ‫عامل البوفيه النشيط ُيقبل‪ ،‬ملبيًا إشارة الزبائن‬     ‫الملهوف‪ .‬وبعد وقت يقترب عامل البوفيه منها بعد‬
   ‫الذين بدأ بعضهم في النهوض‪ ،‬يحييهم مبتس ًما‬         ‫الانتهاء من تقديم ما يحمله لزبائنه‪ ،‬ينظر لها بألفة‬
  ‫وهو يلتقط النقود التي طلبها‪ ،‬ثم يجمع الأكواب‬
                                                                                            ‫ويبتسم‪:‬‬
     ‫والزجاجات الفارغة من فوق المنضدة وعيناه‬                                 ‫ـ ماذا تشربين‪ ،‬يا آنسة؟‬
   ‫تتابعان البنت التى هوت من بين يديها وردتها‬                             ‫= عصير ليمون‪ ،‬لو سمحت‪.‬‬
 ‫الحمراء أثناء شرودها‪ ،‬تنحني لالتقاطها‪ ،‬وعندما‬         ‫يسرع عامل البوفيه إلى حجرته الخشبية‪ ،‬يضرب‬
    ‫ترفع رأسها ترى الشمس وقد احتلت الأرض‬              ‫بالصينية الفارغة على جانب ساقه اليمني في حركة‬
                                                         ‫تشي بتوتر ملحوظ‪ ،‬وكلما التفت للبنت‪ ،‬وجدها‬
      ‫بكاملها؛ ُمح ّركة ِظ ّل الشجرة في اتجاه آخر‪.‬‬       ‫غير عابئة بالنظر إليه‪ ،‬فعيناها ما زالت تتطلعان‬
    ‫معظم زوار الحديقة ينهضون بعد أن لسعتهم‬              ‫بشغف إلى الباب الحديدي‪ .‬عامل البوفيه لم يزل‬
  ‫الشمس‪ ،‬ومع مغادرة آخر شخص‪ ،‬ترفع البنت‬                   ‫يتابعها بعينيه وهو يشرب شايه خارج حجرة‬
     ‫رأسها وتزفر في يأس‪ ،‬تبحث بعين عن عامل‬             ‫عمله‪ ،‬وعندما ينتهي‪ ،‬يرمي ما تبقى في الكوب من‬
   ‫البوفية‪ ،‬وبالأخرى ترمق البوابة المفتوحة بأمل‬           ‫“ ِت ْف ٍل”‪ ،‬وينهض إلى داخل حجرته‪ ،‬واض ًعا على‬
  ‫أخير؛ لتتفاجأ بعامل البوفية يقف أمامها‪ ،‬تخرج‬        ‫الصينية النحاس كوب الليمون‪ ،‬مقب ًل تجاهها بعين‬

     ‫ورقة نقود وتم ّدها له؛ فيبلع ريقه‪ ،‬وبصوت‬                                   ‫مح ّدقة ووجه ُمص ّمم‪:‬‬
                               ‫مرتعش يهمس‪:‬‬                                                 ‫‪ -‬تفضلي‪.‬‬

     ‫‪ -‬آنسة ليلى‪ ،‬أنا من اتصل بك‪ ،‬وح ّدد الموعد‪.‬‬      ‫في أثناء التقاطها الكوب‪ ،‬تلمح تحديقه غير العادي‪،‬‬
     ‫فترفع وجهها فقير الجمال وتتم ّل لأول مرة‬                                  ‫فتسأله بضيق وغضب‪:‬‬
‫وجه عامل البوفيه القمحي وعينه السمراء الممتلئة‬                                     ‫‪ -‬لماذا تنظر هكذا؟!‬
   ‫بالإعجاب والتوتر‪ .‬وعندما يفاجئها بطلب يدها‪،‬‬                                ‫‪ -‬كل خير والله‪ ،‬أنا أأأ‪..‬‬
   ‫تخفض رأسها ولا تر ّد‪ ،‬ثم تغادر الحديقة ببطء‬
     ‫وهي تفكر هل تلحق بآخر عربة ر ّثة في قطار‬            ‫تتق ّطع كلماته على طرف لسانه؛ فيستدير راج ًعا‬
‫الزواج‪ ،‬أم تبقى مع أمها في الشقة الخالية تأكلهما‬        ‫لحجرته محمر الوجه وقد ابتلع كلامه الذي كاد‬

                                      ‫الوحدة؟‬                                               ‫ينطق به‪.‬‬
                                                       ‫ترفع البنت رأسها مسرورة حين تلمح شا ًّبا حلو‬
    ‫‪-2‬‬
                                                          ‫الملامح يدخل وحي ًدا‪ ،‬تجفف العرق عن وجهها‬
       ‫المقاعد مازالت تبرق بلمعة خفيفة لعقد ثمرة‬         ‫الخمري المل ّطخ بالأصباغ وقد شعرت بصدرها‬
    ‫الخشب؛ رغم الحروف الكثيرة والأسماء داخل‬
                                                              ‫يعلو ويهبط وسط تل ُه ّف عينيها الضيقتين‬
      ‫قلوب نحتها المحبون‪ ،‬في أرجاء الحديقة وعلى‬        ‫المكحولتين المتابعتين لخطوات الشاب‪ ،‬لكنها تزفر‬
    ‫حواف أسوارها اقتلعت بعض الأشجار النادرة‬             ‫بغضب بعد انحراف الشاب عنها‪ ،‬استجابة لنداء‬
 ‫فور جفافها‪ ،‬كالليلك واللوز المر‪ ،‬كما ُه ّذبت شجرة‬
                                                                            ‫فتاة جالسة في رك ٍن منز ٍو‪.‬‬
      ‫البتول فصارت نحيفة أكثر من اللازم‪ ،‬وبين‬              ‫كل حين تأخذ البنت رشفة من كوب الليمون‬
‫ممرات الحديقة ُر ِدم حوض بعيد كان مزرو ًعا بال ُف ّل‬      ‫وعينها الحائرة مازالت تتابع الداخلين من باب‬

  ‫والأكاسيا‪ ،‬لكن الورد البلدي الأحمر ظل كما هو؛‬                                             ‫الحديقة‪.‬‬
   90   91   92   93   94   95   96   97   98   99   100