Page 98 - ميريت الثقافية العدد 24 ديسمبر 2020
P. 98

‫العـدد ‪24‬‬   ‫‪96‬‬

                                                     ‫ديسمبر ‪٢٠٢٠‬‬

    ‫تنظر العجوز إلى ابنها من بعيد وتغالب حزنها‪،‬‬          ‫تسحب ابنها الباكي من يده‪ ،‬تدخل إلى الحجرة‬
     ‫تستجمع قواها وتنهض‪ ،‬تسير بتثاقل إلى أول‬             ‫الخشبية وتجهش هي الأخرى بالبكاء‪ ،‬ماسحة‬
      ‫جالس‪ ،‬وعندما ته ّم بإلقاء ما بيدها من ودع؛‬
   ‫تمنعها يد الجالس‪ ،‬وتعطيها ورقة نقدية مشيرة‬              ‫‪-‬بعد وقت طويل‪ -‬دموعهما بطرف طرحتها‬
 ‫إليها بالانصراف؛ فتأخذ النقود وتسير بتثاقل إلى‬          ‫السوداء‪ ،‬ومن فتحة الباب الواسع تخرج وهي‬

                                 ‫منضدة أخرى‪.‬‬                ‫تمسك الصينية النحاسية وعليها كوبا شاي‬
  ‫النخلة البلاستيكية ترسم على الأرض ظ ًّل لخيال‬                   ‫وينسون‪ ،‬مخلفة وراءها ظ ًّل قصي ًرا‪.‬‬
‫مآتة‪ ،‬والسماعات الضخمة المثبّتة فى أركان الحديقة‬
   ‫تنبعث منها أغنية أجنبية راقصة‪ .‬تتمايل الشابة‬      ‫الرجل يتلصص على تفاصيل جسمها المختفي داخل‬
  ‫الجالسة ك ّفها بك ّف صديقها‪ ،‬انسجا ًما مع الإيقاع‬    ‫الجلباب الأسمر‪ ،‬يبلع ريقه بنهم وينهض مقتر ًبا‬
                                                       ‫منها‪ ،‬يحدق في عينيها بشبق؛ فتخفض عينيها في‬
       ‫الصاخب‪ .‬الشابة تأخذ َن َف ًسا من سيجارتها‬
‫الأجنبية‪ ،‬مطلقة الدخان في وجه صديقها في ابتسام‬       ‫ضيق‪ ،‬ينفس الرجل بكلمات يحم ّر لها وجهها‪ ،‬وهو‬
                                                       ‫يخرج لها ورقة النقود‪ ،‬يظ ّل يحركها بيديه لمنعها‬
   ‫ونشوة‪ ،‬وفور استئذان صديقها لدخول الحمام‪،‬‬           ‫من التقاطها بسهولة‪ ،‬وفور التقاطها للورقة تعطيه‬
      ‫تخرج هاتفها وتكلِّم شا ًّبا آخر‪ ،‬وعندما تلمح‬
                                                     ‫الباقي وتستدير متأففة تلعنه في سرها‪ ،‬وتظل عينا‬
    ‫صديقها مقب ًل‪ ،‬تغلق الهاتف وتد ّسه بسرعة فى‬       ‫الرجل متطلعتين لردفيها المترجرجين في الجلباب‪.‬‬
 ‫حقيبتها‪ ،‬ثم ترسل إلى صديقها قبلة عندما يقترب‬          ‫وحين تبتعد‪ ،‬يخرج من الباب المفتوح على وسعه‪،‬‬

                                       ‫وتبتسم‪.‬‬                         ‫بعد نداء البستاني الشاب عليه‪.‬‬
‫الشاب ابن السيدة العجوز يسير راف ًعا بك ّفه صيني ًة‬       ‫بجهدها المتواضع تلبّي طلبات الزبائن‪ ،‬وحين‬
                                                      ‫ينهكها السعي‪ ،‬تجلس على المقعد الخشبي المتف ّصد‬
    ‫معدني ًة لامعة‪ ،‬عليها فنجان قهوة وزجاجة ماء‪،‬‬         ‫الأركان‪ .‬تضع رأسها على راحة ك ّفها المنبسطة‪،‬‬
   ‫ورغم ُبعد أمه عنه‪ ،‬فإنه يحرسها بطرف عينيه‪،‬‬           ‫وهي تبصر في الشارع عربة موتى تحمل نعش‬
 ‫يضع ما يحمله على المنضدة سائ ًل الجالس عن أية‬       ‫أحد المتوفين تلحق بها عربات استأجرها أهل الميّت‬
‫خدمة أخرى يؤديها؛ فيشير له بالانصراف‪ ،‬يقترب‬           ‫للحاق بالدفنة‪ ،‬فتتذكر تفاصيل يوم جنازة زوجها‬
   ‫من منضدة الفتاة التي دخنّت آخر سيجارة من‬            ‫الذي مات بلا سبب‪ ،‬وأمها التي ماتت بعده بأيام‬
  ‫علبتها‪ ،‬فتعطيه الفتاة ورقة نقدية كي يشتري لها‬          ‫بعد أن صالحتها وغفرت لها‪ .‬وعندما تفيق من‬
                                                       ‫شرودها تفكر فى مصيرها وهي الأرملة الفقيرة‪،‬‬
                            ‫علبة من نفس النوع‪.‬‬
     ‫يقتنص الشاب بضع دقائق‪ ،‬يسند فيها ظهره‬                        ‫عندما ُتعرض الحديقة كلها للانتفاع‪.‬‬
      ‫المتعب إلى الجدار‪ ،‬يشرب كوب شاي ويد ّخن‬
 ‫سيجارة محلية الصنع وهو ينظر لصورة مضيئة‬                              ‫‪-4‬‬
‫لرجل أعمال شهير تقول أمه إنه كان يعمل بستانيًّا‬
     ‫في الحديقة‪ ،‬وفور أن ينتهي‪ ،‬يرمي ما بقى في‬           ‫شجرة التين البنغالي العجوز استأصلوها بأمر‬
    ‫الكوب من “ ِت ْف ٍل”‪ ،‬ويسير ليعطي الجالسة علبة‬      ‫من مالك الحديقة الجديد؛ وغرسوا مكانها نخ ًل‬
                                                         ‫بلاستيكيًّا‪ ،‬بداخله لمبات ملونة تضيء فى الليل‬
                                      ‫السجائر‪.‬‬        ‫آليًّا‪َ .‬ت ْجلِس العجوز شاردة وهى تحني رأسها على‬
       ‫تقترب أمه من نفس المنضدة‪ ،‬ترمي صدفها‬             ‫مسند المقعد الجديد‪ ،‬تنظر مرة إلى السماء الملبدة‬
‫البحري أمام الشابين‪ ،‬وتل ّمه بك ّفها النحيلة‪ ،‬مخبرة‬    ‫بالغيم‪ ،‬ومرة لابنها الذي صار طول أبيه‪ ،‬يضبط‬
     ‫البنت ‪-‬التى تنفث الدخان فى وجهها‪ -‬بكلمات‬         ‫ببيونه الأسود على ياقة قميصة الأبيض‪ ،‬ويتحرك‬
‫تحفظها عن المصير‪ ،‬وفور أن تنتهي ورديتهم تتكئ‬          ‫ناحية الزبائن‪ ،‬بكفه قل ٌم وفى الأخرى نوتة ورقية‪:‬‬
   ‫السيدة العجوز على ابنها ويغادران الحديقة من‬
  ‫بابها الواسع في اتجاه المقابر التي تستقبلهم الآن‬                                  ‫‪ -‬أمرك‪ ،‬يا باشا‪.‬‬
                                                                              ‫‪ -‬قهوة زيادة‪ ،‬يا ابني‪.‬‬
                                     ‫كساكنين‪.‬‬
   93   94   95   96   97   98   99   100   101   102   103