Page 92 - ميريت الثقافية العدد 24 ديسمبر 2020
P. 92

‫العـدد ‪24‬‬   ‫‪90‬‬

                                                         ‫ديسمبر ‪٢٠٢٠‬‬

  ‫تلك الحالة الغريبة التي تعتريه‪ .‬شرعت المرأة خلال‬          ‫بها من ق ّمة جبل‪ .‬وفي الليلة التي طالع فيها ال ُحزمة‬
                                                            ‫الثانية من القصائد اللازورد ّية‪ ،‬ألحت عليه مشاعر‬
    ‫هذه الجولة‪ ،‬تطوي م ْحمل ال ّرسم بعد أن باشرت‬           ‫غريبة‪ ،‬جعلته يرغب بعد أمد طويل من تلك الحادثة‪،‬‬
 ‫بالعمل‪ .‬رغب في جعلها ترى تلك المشاهد التي سوف‬
                                                              ‫في القبض على الفراشة النّارية الغريبة الألوان في‬
   ‫تعيده إلى عالم الفن‪ ،‬وكم كانت دهشته كبيرة حين‬
                                                           ‫عبارة «أنت لي» التي طالما حيّرته‪ ،‬وربما شعر بعدم‬
   ‫تجلت كل ال ّصور في عدسته‪ ،‬ولم يكن لتلك العائلة‬         ‫قبول مغزى العبارة وكأ ّنه متاع من متاعها‪ ،‬ثم شعر‬
 ‫والفتاة الأ ْسطورية‪ ،‬أي أثر في كل اللقطات المُص ّورة‪.‬‬   ‫بوقاحة الطلب‪ ،‬ثم أعاد الك ّرة وفي كل حين‪ ،‬يقلّبها على‬
                                                           ‫أحد الوجوه فشعر ختا ًما ببعض التثمين لذاته‪ ،‬وهل‬
                     ‫جعلت جولييت تواسيه قائلة‪:‬‬           ‫من أهميّة له كي ي ْسمع منها ذلك‪ .‬كانت أنفا ُس الغيرة‬
                 ‫‪ -‬أنا أص ّدقك وإن ك ّذبتك العدسة!‬
                                                                         ‫طاغية على عبير المو ّدة وكأ ّنها تقول‪:‬‬
                                       ‫ر ّد بقوله‪:‬‬         ‫‪ -‬لا تضع تعليقاتك الجميلة في أي موضع آخر غير‬
            ‫‪ -‬أوه يا إلهي‪ ..‬كيف يمكن أن يقع ذلك!‬
                                                                                               ‫رسوماتي‪.‬‬
    ‫كان حزنه عمي ًقا‪ ،‬فخصوبة خياله لا تكفي لتثبيت‬
                                                            ‫كانت تف ُد إلى قريته وت ْسأل عن القاعة التي يعرض‬
‫ذلك الوجه الذي يتوق لتجسيده في لوحة يسكب فيها‬                     ‫فيها أعماله‪ ،‬وقد عقدت صداقات ُمختلفة مع‬

‫جوهر روحه‪ .‬هاهي صديقته المجنونة تتف ّرغ لحكايته‬               ‫ال ّرسامين المُ ْستشرقين من أصدقائه الذين كانوا‬
  ‫المُلهمة‪ ،‬أطال الشرح والتّدقيق وغادر مجلسه ليتخذ‬          ‫يلتقونه للحوار والتشاور في مسائل نقد ّية في قاعة‬
                                                         ‫الاستقبال بالنّزل‪ ،‬أو في المخيمات المبثوثة في الواحات‪،‬‬
     ‫من كثبان ال ّرمال م ْسر ًحا‪ .‬كانت ترتشف كلماته‬
 ‫فتسكر‪ ،‬ما دعاه ليشكل من روحه جوهر البلاغة في‬               ‫وتغلغلت في علاقته القديمة بهم‪ ،‬وطالبت بنصيبها‬

 ‫وصف المجهول المعلوم! قال إنه يتض ّور جو ًعا للبكاء‬         ‫من ال ّرحلات ال ّصحراو ّية التي عمل جاه ًدا على عدم‬
     ‫لأنه محمول إلى عالمها على جناح الشوق‪ ،‬وطفق‬            ‫إعلامها بها‪ ،‬فهي في يقينه امرأة رقيقة لا تقوى على‬
                                                         ‫مشا ّق الترحال على ظهور الإبل‪ ،‬لكنّها أص ّرت وعاندت‬
‫يحكي عن اللحظات الختاميّة المُد ّمرة التي تلاشت فيها‬     ‫وأبلت بلا ًء حسنًا‪ ،‬وكان لها ما أرادت ثم أدمنت‪ ،‬لكنّه‬
  ‫الفتاة وكأ ّنها لم تكن! وكان عزاؤه في خياله العظيم‬
                                                                      ‫في تلك الليلة القدر ّية‪ ،‬وجد نفسه ير ّد ُد‪:‬‬
     ‫وذاكرته العجيبة‪ ،‬لكن الخيال يجف ولا ينبجس‬                                            ‫‪ -‬أنا لك‪ ..‬أنا لك‪.‬‬

   ‫دون دموع ترطب صخرة ال ّروح فهي المآل الأخير‬              ‫ولم يكن بالتأكيد‪ ،‬يعني تلك ال ّر ّسامة ال ُبورجواز ّية‪.‬‬
 ‫الباقي من خلاصة جوهر اللغة‪ ،‬كما يؤمن ويحب أن‬             ‫ُيخفي هاشم تلك الودعة في أمكنة لا تطالها ي ٌد عابثة‪،‬‬

   ‫يقول‪ .‬ق ّص عليها كل التفاصيل بتم ّهل وهي تتابعه‬           ‫وكلما تاق إلى رؤيتها بدافع الحنين إلى ذلك الوجه‬
   ‫في جنون وهو يشهق بالبكاء و ُيخرج من جيبه تلك‬             ‫القادم من الغيب‪ ،‬يعتريه شعور أبد ّي وإ ّنها سائرة‬
  ‫الودعة‪ ،‬وينوح بوجع لا تنوحه ثكلى‪ ،‬ودموعه تقطع‬          ‫إلى زوال وأ ّنه سيفتح في أحد الأيام ذلك المكمن فيجده‬
   ‫عنه ال ّرؤية وتصيبه بالعمى وتصل بصيرته بمد ٍد‬         ‫كالعش الفارغ‪ ،‬وهو يذكر تلك المقولة المُؤلمة «إ ّن ال ُع ّش‬
   ‫من ال ّصور الحيّة‪ ،‬هناك حيث تقف الجنّية في آخر‬          ‫الفارغ يسخر م ّمن يعثر عليه»‪ ،‬لكنّها دو ًما تكون في‬
‫ُمنعطف للذاكرة وهو ُمختنق العبرات ي ْستنشق الهواء‬           ‫انتظاره وكأ ّنها هي التي تح ّن إليه وتدعوه للتجوال‬

    ‫بعسر‪ ،‬وجولييت تبكي في صمت وهي تض ّم يده‬                    ‫معها في ال ّصحراء‪ ،‬ف ُيداعبها في جيبه فوق قلبه‪.‬‬
  ‫بيدها فيقتسمان حرارة «ودعة الشمس»‪ ،‬وجسدها‬               ‫كان يتوق للبوح بس ّرها لصديقته الفرنسيّة جولييت‪،‬‬
 ‫المُوسيقي ُيش ّع بهالة أثير ّية‪ ،‬تكاد تسلبه ُروح وليمة‬
                                                             ‫تلك البوهيميّة التي تكفر بالعقل وتؤمن بالجنون‪،‬‬
                                        ‫ال ّدموع‪.‬‬             ‫ترافقه دو ًما إلى الفيافي على متن سيارتها رباعيّة‬
                ‫‪---------------------‬‬                     ‫ال ّدفع‪ ،‬فتر ُسم وتكتب وترقص في الهواء الطلق‪ .‬آنس‬
                                                            ‫فيها من دون بقية ال ّصحاب رغبة لل ّسماع وتش ّر ًبا‬
      ‫فصل من رواية لم تنشر بعنوان «الدجال»‪.‬‬                 ‫ل ُروح الحكاية‪ ،‬جعلته ُيبدع في التعبير ال ّسريالي عن‬
   87   88   89   90   91   92   93   94   95   96   97